ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه، هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ومع هذا فلما شرح هذا الفصل قال: تقرير الوهم أن يقال: إنك ذكرت أن المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها ببعض، بل هي صور متباينة منفردة في جوهر العاقل، وذكرت أن الأول الواجب يعقل كل شيء، فإذن معقولاته صور متباينة متقررة في ذاته. ويلزمك على ذلك أن لا تكون ذات الأول الواجب واحدا حقا. بل تكون مشتملة على كثرة. ابن سينا،
قال: وتقرير التنبيه أن يقال: إن الأول لما عقل ذاته بذاته، وكانت ذاته علة للكثرة، لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته بذاته، فتعقله للكثرة لازم معلوم له، فصور الكثرة، التي هي معقولاته، هي معلولاته ولوازمه، مترتبة ترتب المعلولات، فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة. وذاته ليست بمتقومة بها، ولا بغيرها، بل هي واحدة.
وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علمها [ ص: 40 ] الملزومة إياها، سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة لها، فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته، المتقدم عليها بالعلية والوجود، لا يقتضي تكثره. والحاصل أن الواجب واحد، ووحدته لا تزول بكثرة الصور المعقولة المقررة فيه.
قال: فهذا تقرير التنبيه. وباقي الفصل ظاهر.
قال: ولا شك في أن القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا، وقول بكون الأول موصوفا بصفات غير إضافية ولا سلبية على ما ذكره الفاضل الشارح. يعني الرازي.
وقول بكونه محلا لمعلولاته الممكنة المتكثرة، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وقول بأن معلوله الأول غير مباين لذاته، وبأنه تعالى لا يوجد شيئا مما يباينه بذاته، بل بتوسط الأمور الحالة [ ص: 41 ] فيه، إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء، القائلين بنفي العلم عنه تعالى. وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها، والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل بالمعقول، إنما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني.
قال: ولولا أني اشترطت على نفسي في صدر هذه المقالات أني لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفا لما أعتقده لبينت وجه التقصي عن هذه المضايق وغيرها بيانا شافيا لكن الشرط أملك. ومع ذلك فلا أجد في نفسي رخصة أن لا أشير في هذا الموضع إلى شيء من ذلك أصلا، فأشرت إليه إشارة خفيفة، يلوح الحق منها لمن هو ميسر لذلك.
قال: فأقول: العاقل، كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو، فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو. واعتبر في نفسك: أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقا، بل بمشاركة [ ص: 42 ] ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضا بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك. بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب. وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك لك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟
قال: ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها، فإنك تعقل ذاتك، مع كونك لست بمحل لها، بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة، شرطا في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر، غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك.
ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية [ ص: 43 ] للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها، من غير أن تكون هي حالة فيه.
وإذ تقدم هذا فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود، إلا في اعتبار المعتبرين على ما مر. وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول، فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضا: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول، والثاني متقررا فيه. وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك. فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول، تعالى عن ذلك.
ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها. [ ص: 44 ]
والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور، لا بصور غيرها، بل بأعيان تلك الجواهر والصور، وكذلك الوجود على ما هو عليه، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة، من غير لزوم محال من المحالات المذكورة.
قال: فهذا أصل إن حققته وبسطته انكشفت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكلية والجزئية، إن شاء الله تعالى.
و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [المائدة: 54]. ولولا أن تلخيص هذا البحث على هذا الوجه الشافي يستدعي كلاما بسيطا، لا يليق أن نورد أمثاله على سبيل الحشو، لذكرت ما فيه كفاية، لكن الاقتصار هنا على هذا الإيماء أولى.