الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثالث عشر: قوله: وإذ تقدم هذا، فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود، لا في اعتبار المعتبرين على ما مر، وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله المعلول الأول. فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضا: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأول، والثاني متقررا فيه. وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتبارا محضا، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك. [ ص: 70 ]

فيقال: كلا المقدمتين ممنوعة باطلة: التلازمية والاستثنائية، المشبه والمشبه به، الأصل والفرع.

أما قوله: حكمت بكون ذاته وعقله لذاته شيئا واحدا في الوجود، فهذا لم يحكم به أحد من مثبتة الصفات، الذين هم سلف الأمة وأئمتها وجماهيرها، على تنوع أصنافهم، فلم يقل منهم أحد: إن علمه بنفسه هو عين نفسه، وإنما يحكى ما يشبه هذا عن المعطلة الجهمية من أهل الكلام والفلسفة، كابن رشد ونحوه، بل علمه بنفسه في كونه ليس هو نفسه، كعلمه بسائر المعلومات، فليس العلم نفس العالم عند أحد من أهل الإثبات للصفات.

ولكن هل يقال: إنه غيره؟ هذا فيه نزاع لفظي.

منهم من يقول: إن علمه غيره.

ومنهم من يقول: لا هو هو، ولا هو غيره.

ومنهم من يقول: لا نقول: لا هو هو، ولا هو غيره، فأنفيهما جميعا، بل أقول: ليس هو إياه منفردا، وأقول: ليس هو غيره مفردا. ولا أجمع بينهما فأقول: لا هو هو، ولا هو غيره.

وأما السلف والأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره، فلم يقولوا شيئا من ذلك، بل امتنعوا من إطلاق القول بأنه غيره، كما لم يطلقوا أنه هو، ولم يقولوا: إنه لا هو هو، ولا غيره، فينفوهما جميعا: لا مجتمعين ولا منفردين، بل منعوا من إطلاق لفظ الغير؛ لأن لفظ الغير مجمل، يراد به المباين، ويراد به ما ليس هو إياه. [ ص: 71 ]

والجهمي إذا سأل أحدهم عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ فإن قال: هو غيره. قال: كل ما هو غير الله مخلوق.

ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في المحنة عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ وإذا كان غيره كان مخلوقا- عارضهم بالعلم فسكتوا. وقد تكلم على لفظ الغير في الرد على الجهمية.

والقول الذي قبله قول الأشعري وطائفة، والذي قبلهما قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وطائفة، والأول قول الكرامية وطائفة.

ومما يدل على قول الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك».

وثبت عنه الحلف بعزة الله، والحلف بقوله: لعمر الله، فلو كان الحلف بصفاته حلفا بغير الله لم يجز، فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله، ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم؛ لأن الحلف بالصفة اللازمة، حلف بالموصوف سبحانه وتعالى. [ ص: 72 ]

وقول القائل: الصفات زائدة على الذات ليس كقوله: صفات الله زائدة على الله؛ لأن مسمى اسم الله يدخل في صفاته، فإذا قال: الله دخل فيه صفاته، فإذا قال: هي غيره أوهم مباينة لله لم تدخل في اسمه.

وأما لفظ الذات فقد يراد بها الذات التي يقدر أنها مجردة عن الصفات، والصفات زائدة على لفظ الذات.

ولفظ الغيرين يراد بهما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، وعلى هذا فالصفة ليست مغايرة للموصوف. ويراد بهما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وعلى هذا فالصفة غير الموصوف، والعلم غير العالم. وهذا هو لغة هؤلاء فنخاطبهم بلغتهم.

فإذا قال: الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود.

قيل: هذا ممنوع، بل عقله لذاته ليس هو ذاته، بل هو مفهوم مغاير لمفهوم الذات، وإن كانا متلازمين. واعتبار المعتبرين: إن كان مطابقا للحقيقة، وإلا كان خطأ.

وكون الشيء لا يتميز عن الشيء من وجه، لا يقتضي أنه لا يتميز عنه من وجه آخر، فالطعم لا يتميز عن اللون باللمس، ولكن يتميز أحدهما عن الآخر بالرؤية والذوق، فلو قدرنا عدم القوة المميزة لم يمتنع الامتياز في نفس الأمر.

وكذلك إذا قدرنا صفة لازمة لموصوفها، لم نشعر بأحدهما [ ص: 73 ] منفكا عن الآخر، لم يدل ذلك على أنهما شيء واحد في نفس الأمر.

وكذلك الصفات العامة والخاصة في الموصوف الواحد، مثل كون الإنسان حيوانا وناطقا، وكون الجسم جسما ونباتا، وكون اللون سوادا وبياضا، وإن لم يتميز هذا من هذا ببعض أنواع الإدراك، فإنه يتميز بنوع آخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية