الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثامن عشر: قوله: ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول [ ص: 78 ] الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها.

فيقال: مضمون هذا الكلام أن الجواهر العقلية لما عقلت الأول، لزم أن تعقل كل شيء؛ لأن ما سواه معلول له، وأن تكون جميع صور الوجود حاصلة فيها.

وفي هذا الكلام من الباطل أنواع:

منها أن يقال: ومن أين لكم أن مخلوق الرب يعلمه علما تاما، بحيث لا يخفى عليه من أحوال الرب شيء؟ بل يعلم الرب، كما يعلم نفسه، حتى يكون علمه بالرب متضمنا للعلم بكل موجود؟ وما الدليل على هذا، والكتب الإلهية والدلائل العقلية تناقض ذلك؟

قال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [البقرة: 255].

وقال عن الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم [البقرة: 32]. [ ص: 79 ]

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون [الأنبياء: 26-28].

وقال: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض [الأعراف: 187]: أي خفي علمها على أهل السماوات والأرض.

وقال تعالى: إن الساعة آتية أكاد أخفيها [طه: 15]؛ أي أخفيها من نفسي، فكيف أطلعكم عليها؟

وقال: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [النمل: 65].

وقال عن الملائكة: وما نتنزل إلا بأمر ربك [مريم: 64].

وقال: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما [طه: 98]، إلى قوله: وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [طه: 108-110]. [ ص: 80 ]

ومنها أن الأول الواجب لم يثبتوا له علما محققا بجزئيات المخلوقات، بل ولا بكلياتها، فكيف يستفاد من العلم بنفسه العلم بتفاصيلها، وهو عندهم لا يعلم تفاصيلها؟ فإذا لم يستفد العلم بتفاصيلها إلا من العلم به لكونه مبدأ امتنع ذلك.

ومنها أن يقال: حصول جميع صور الموجودات الجزئية والكلية على ما هي عليه: إن كان صفة الكمال، فالرب أحق بها من مخلوقاته.

وإن كان صفة نقص، فلا موجب لوصف العقول بها.

فإن قلتم: أثبتناها للعقول لتعلم جميع الأشياء.

قيل: إن كان العلم بجميع الأشياء يمكن بدون حصول صورها في العالم، أمكن ذلك في العقل، كما أمكن في الأول. وإن لم يمكن ذلك، وجب إثباتها للأول، وكان أحق بذلك من مفعوله. فإن الأول إذا كان علمه بالمخلوق نفس المخلوق، كان علم العقل به يفيده العلم بالمخلوق، من غير قيام صورة المخلوق عنده، بل يكفيه ارتسام صورة المخلوق.

ومنها: أن يقال: إذا كان العقل المعلول إنما يستفيد علمه بالموجودات من علمه بالأول، وهي ليست متصورة في ذات الأول، فكيف يتصور في ذات العقل ما لم يتصور في ذات معلومة؟ وكيف يكون الفرع أكمل من أصله؟

فإن قيل: علمه بالأول ومعلولاته يوجب الارتسام، فاستفاد ذلك من علمه بوجوده، لا من علمه بعلمه. [ ص: 81 ]

قيل: إذا كان هذا صفة كمال، فالأول أحق به، وإن كان نقصا وجب تنزيه العقل عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية