الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الحادي عشر: قوله: ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه.

يقال له: لا ريب أن كونها مفعولة مخلوقة فيه، مغاير لكونها قائمة به، لكن يجب أن نعرف أنه لم يقل عاقل: إن العلم بالمخلوقات يقتضي حلول المخلوقات بذات الخالق، كما أن خلقه لها نفس إبداع ذواتها، فلم يقل عاقل: إن الذي هو مخلوق مفعول، هو نفس الذي هو حال مقبول، حتى نفرق بينهما، بأن أحدهما [ ص: 66 ] حصول للفاعل، والآخر حصول للقابل، بل الحاصل للفاعل هو نفس الأشياء المخلوقة، كالسماوات والأرض وما بينهما. وأما القبول القائم بالقابل، فهو العلم بها، الذي يسمونه صورة عقلية، لا نفسها الموجودة.

ولا يقول عاقل يتصور ما يقول: إن العلم حصول نفس الموجودات في العالم، فإن كل عاقل يعلم أنه إذا علم النار والشمس والقمر، لم تكن هذه الحقائق في نفسه، وإن قدر أن أحدا قال ذلك، أو قال: إن الحاصل في نفسه مثل حقائقها الموجودة في الخارج في الحد والحقيقة، حتى يقول: إن من علم الشمس صار في نفسه شمسا مساوية في الحد والحقيقة للشمس التي في السماء، ومن علم النار حصل في نفسه نار مساوية في الحقيقة للنار التي تحرق، فهذا القول ظاهر الفساد.

وإنما الذي قد يقال: إنه تحصل صورة عقلية تطابق تلك الحقيقة، مطابقة ما في النفس لما في الخارج. ولهذا يمثلون ذلك بمطابقة الوجه لما في المرآة.

فنقول: حصول الصورة العلمية في العالم، كحصول الصورة المرئية في المرآة، أو في الماء، ونحو ذلك.

ومعلوم أنه لم تحل في المرآة والماء نفس الشمس والوجه، ولا ما يساويهما في الحد والحقيقة، ولكن صورة تحكيهما، وليست هذه الصورة كالصورة التي تحصل في الشمع والطين من طبع الخاتم والرسم، فإن تلك عرض منقوش حل في جسم يشبه الآخر، بخلاف ما في المرآة فإنه [ ص: 67 ] عرض، والشمس والوجه جسم، وكذلك العلم الذي في القلب، والمعلوم القائم بنفسه، كالسماء والأرض جواهر، فليس هذا مثل هذا.

وبالجملة فنحن ليس غرضنا في هذا المقام إلا إثبات قيام العلم بالعالم، فإنه أمر معلوم بالضرورة؛ إذ كل أحد يميز بين شعوره بالشيء، وعدم شعوره به.

أما كون ذلك بانطباع صورة عقلية مطابقة أو مشابهة، أو غير ذلك- فليس هذا موضع الكلام فيه؛ إذ المقصود هنا أن ذلك العلم هو المسمى بالصورة العقلية، وهو حال في العالم.

وليس هذا هو الصورة الموجودة في الخارج، ولا فاعل هذا فاعل ذاك، ولا قابل هذا هو قابل ذاك، فإن العلم بقلبه -قلب العالم- فهو صفة قائمة بالعالم، وفاعله هو ما أحدثه فيه.

وعلم الله القديم اللازم لذاته قائم به، وليس له فاعل، وإن كان له موصوف به يسمى محلا ويسمى قابلا.

وأما الصورة الموجودة في الخارج، فالله سبحانه خالقها.

والإنسان قد يكون له فعل في بعض الصور، ومحلها -إن كانت عرضا- الجسم الذي قامت به، كما أن محل الصياغة هو الذهب والفضة، ومحل النجارة هو الخشب، ومحل صورة الدرهم والدينار والخاتم هو الذهب والفضة، ومحل الخياطة الثوب، ومحل النساجة الغزل، وأمثال ذلك. [ ص: 68 ]

فقول القائل: حصول الشيء لفاعله غير حصوله لقابله يقتضي أن الشيء الحاصل للفاعل، هو الشيء الحاصل للقابل، وإنما اختلف الحصولان.

وليس كذلك، فإن حصول الشيء لفاعله هو حصول نفسه المخلوقة الموجودة، كحصول العالمين لرب العالمين، فإن كل المخلوقات حاصلة له، حصول المفعول لفاعله، بل حصولا لا يماثله فيه أحد، فإن أحدا لا يخلق كخلقه.

وأما حصول المقبول لقابله. فإنما المراد به هنا حصول العلم بهذه المخلوقات للعالم بها، فإن العلم يحصل له حصول المقبول لقابله، لا يراد به أنها نفسها حصلت له حصول المقبول لقابله، بحيث حلت فيه، وكان محلا لها، فهذا هذا.

التالي السابق


الخدمات العلمية