الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي يوم الجمعة الثالث من ربيع الأول: ركب جماعة من القواد فقطعوا خطبة جلال الدولة ، وبلغه ذلك فأزعجه وبعث خواص جواريه إلى دار الخلافة ، وغيرها وخير الباقيات بين أن يعتقن أو يأخذن لنفوسهن ، ومنهن من أعتق ومنهن من مضى إلى من كن له من قبل ، ثم اجتمع الغلمان وراسلوا الملك ، فقالوا: قد علمت ما وافقتنا عليه من الانحدار إلى واسط ، والوجه أن تستخير الله في ذلك ، فقال: إنما قررتم من يخرج معي من يسلم إلى البصرة ، فإما أن أخرج على غير قاعدة فما أفعل ، وامتلأ جانبا دجلة وشطها بالناس والسميريات ، وترددت الرسل إلى الملك بالمطالبة بالخروج ، فقال: ابعثوا معي مائة غلام يحرسونني في طريقي ، فقالوا: لا يمكن مائة ، ولكن عشرون ، فقال: أريد شفيقا يحملني ونفقة تنهضني ، فقرروا بينهم إطلاق ستين دينارا لنفقة من يصحبه من الغلمان ، والتزم بعض القواد منها ثلاثة دنانير ونصفا .

فلما كان الليل من ليلة الاثنين سادس ربيع الأول خرج في نفر من غلمانه ، فمضى إلى عكبرا على وجه المخاطرة ، فتبادر الغلمان إلى دار المملكة ، فنهبوا ما فيها وكتب الإصفهلارية عن نفوسهم ، وعن فرق من الغلمان وطوائفهم كتبا إلى الملك أبي كاليجار بما فعلوه في خدمته ، وهنئوه باجتماع الكلمة على طاعته ، واستدعوا منه إنفاذ من يدبر الأمور ويحفظ نظام الجمهور ، وأخرجوا بها ركابية ، فقال: هؤلاء الأتراك يكتبون ما لا يعقدون الوفاء به ويعدون ولا يصدقون ، فإن كانوا محقين في طاعتهم فليظهروا شعارنا ، وليخرجوا من عندهم ولا أقل من أن يخرجوا إلينا منهم خمسمائة غلام ليكون توجهنا معهم ، فأما بالاغترار بأقوال لا يعرف ما وراءها فلا والوجه أن يعلل القوم بالمدافعة وتوقعوا ما تحدثه الأيام ، فإنهم في كل يوم يضعفون وتدعوهم الضرورة إلينا ، فنأخذ الأمر عفوا ، ونربح المال الذي ننفقه ، والغرر الذي نركبه ، وكان من وزراء أبي كاليجار أبو منصور بن فنه ، وكان فاضلا ومن آثاره دار كتب وقفها على طلاب العلم [ ص: 225 ] جمع فيها تسعة عشر ألف مجلد ما فيها إلا أصل منسوب ، وفيها أربعة آلاف ورقة بخط بني مقلة ، ثم اختلت المملكة ، وقطع عن جلال الدولة المادة حتى أخرج من ثيابه وآلاته الحقيرة وباعها في الأسواق ، وخلت داره من حاجب وفراش وبواب ، وصار أكثر الأبواب مغلقا ، وقطع ضرب الطبل له في أكثر الأيام لانقطاع الطبالين ، وظهر العيارون ، وكثر الاستقفاء والكبسات ، ومد الأتراك أيديهم إلى الغصوب ، وتشاور القواد في أن يخطب للملك أبي كاليجار ، فقال بعضهم: لا نخطب لأحد حتى تستقر أمورنا معه ، وخرج الملك إلى عكبرا ، وقصد حلة كمال الدولة أبي سنان فاستقبله وقبل الأرض بين يديه ، وقال له: خزانتي وأموالي وبلادي لك ، وأنا أتوسط بينك وبين جندك ، وزوجه ابنته ثم مضى إليه جماعة من الجند واعتذروا مما فعلوا ، وأعيدت خطبة جلال الدولة في السابع عشر من ربيع الأول ، فأقيمت في جامع المدينة ، وجامع الرصافة ، ولم تقم في جامع الخليفة ، ثم أقيمت فيه في الجمعة الثالثة .

وفي يوم السبت الثامن عشر منه: خرج أبو منصور بن طاس الحاجب ، وأبو القاسم علي بن أبي علي ، وخادمان إلى حضرة الملك بكتاب من الخليفة يتضمن الاستيحاش لبعده ، ويهنئه بالسلامة وإسفار الأمور عن الاستقامة ، ثم بعث الخليفة القاضي أبا الحسن الماوردي ، ومبشرا الخادم إلى الملك أبي كاليجار إلى الأهواز بكتاب ، قال الماوردي: قدمنا عليه فتلقينا وأنزلنا دارا عامرة وحملت إلينا أنزال كثيرة ، ثم استدعينا إلى حضرته وقد فرشت دار الإمارة بالفروش الجميلة ، ووقف الخواص والأصحاب على مراتبهم من جانبي سريره ، وأقيم الجند في المجلس والصحن صفين ، فما يتجاوز قدم قدما وفي آخر الصفين ستمائة غلام دارية البزة الحسنة والأقبية الملونة ، فخدمنا وسلمنا وأوصلنا الكتاب وتردد من القول بين استخبار وإخبار الأخبار وابتداء وجواب ما يتردد مثله . وانصرفنا .

وأقيمت الخطبة في يوم الجمعة السابعة ليوم اللقاء ، ثم جرى الخوض فيما طلبوه من اللقب واقترحوا أن يكون اللقب السلطان المعظم مالك الأمم ، فقلت: هذا لا [ ص: 226 ] يمكن لأن السلطان المعظم الخليفة ، وكذلك مالك الأمم ، فعدلوا إلى ملك الدولة فقلت: هذا ربما جاز ، وأشرت أن يخدم الخليفة بألطاف فقالوا: يكون ذلك بعد التلقيب ، فقلت: الأولى بأن يقدم ، ففعلوا وحملوا معي ألفي دينار سابورية ، وثلاثين ألف درهم نقرة ، وعشرة أثواب خزا سوسيا ، ومائة ثوب ديباجيا مرتفعة ، ومائة أخرى دونها ، وعشرين منا عودا . وعشرة أمناء كافورا ، وألف مثقال عنبر ، وألف مثقال مسكا ، وثلاث مائة صحن صيني ، ووقع بأقطاع وكيل الخدمة خمسة آلاف دينار مغربية من معاملات البصرة ، وأن يسلم إليه ثلاثة آلاف قوصرة كل سنة ، ويجاز بغير مئونة ولا ضريبة ، وأفرد عميد الرؤساء أبو طالب ابن طالب بن أيوب بخمسمائة دينار وعشرة آلاف درهم ، وعشرة أثواب ديباجا وعدنا إلى بغداد ، فرسم لي الخروج إلى جلال الدولة وإعلامه الحال ، فخرجت وتلطفت في إجراء حديث اللقب ، وما سأله الملك فثقل عليه ذلك ثقلا اقتضاء وقوف الأمر فيه .

وفي ربيع الآخر وكان في أذار: جمد الماء جمودا ثخينا حتى في حافات دجلة ، وهبت ريح رمت رملا أحمر ، وقام الثلج ما جمع ودق واستمر تأخر الأمطار ، وأجدبت الأرض وتلفت وهلك المواشي وتلف جمهور الثمار .

وقوي أمر العيارين ، وكبس رئيسهم البرجمي خانا ، فأخذ جميع ما فيه ، فقوتل فقتل جماعة ، وكان يأخذ كل مصعد ومنحدر ، وكبس دارا بسوق يحيى ، وأخذ ما فيها وأحرقها هذا والعسكر ببغداد .

وفي هذا الشهر: اجتمع الجند ومنعوا من الخطبة للخليفة لأجل رسول البيعة ، فلم تصل الجمعة ، فتلطف الأمر حتى أقيمت الخطبة في الجمعة الثانية [على العادة] .

التالي السابق


الخدمات العلمية