الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

3062 - أحمد بن محمد بن أحمد ، أبو حامد الإسفراييني :

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ، قال :

قدم أبو حامد الإسفراييني بغداد وهو حدث ، فدرس فقه الشافعي على أبي الحسن ابن المرزبان ، ثم على أبي القاسم الداركي ، فأقام ببغداد مشتغلا بالعلم حتى انتهت إليه الرئاسة ، وعظم جاهه عند الملوك والعوام ، وحدث عن أبي بكر الإسماعيلي وغيره ، [ ص: 113 ] حدثنا عنه الخلال والأزجي وكان ثقة ، وقد رأيته غير مرة وحضرت تدريسه في مسجد عبد الله ابن المبارك ، وهو المسجد الذي في صدر قطيعة الربيع ، وسمعت [من يذكر ] أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه ، وكان الناس يقولون : لو رآه الشافعي لفرح به .

قال المصنف : وقد ذكر أنه كان يقصده الوزير فخر الملك أبو غالب وغيره من الأكابر ، وكان يحمل إليه من البلاد الزكوات والصدقات فيفرقها ، وكان يجري على فقراء أصحابه في كل شهر مائة وستين دينارا ، وأعطى الحاج في بعض السنين أربعة عشر ألف دينار .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي ، حدثنا محمد بن روق الأسدي ، قال :

سمعت أبا الحسين ابن القدوري ، يقول : ما رأيت في الشافعيين أفقه من أبي حامد .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد ، قال : حدثني إبراهيم بن علي الشيرازي ، قال :

سألت القاضي أبا عبد الله الصيمري : من أنظر من رأيت من الفقهاء ؟ فقال أبو حامد الإسفرائيني ] .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد ، قال : مات أبو حامد الإسفراييني ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وأربعمائة ، ودفن من الغد وصليت على جنازته في الصحراء ، وكان إمام جنازته في الصلاة أبو عبد الله بن المهتدي خطيب جامع المنصور ، وكان يوما مشهودا بكثرة الناس ، وعظم الحزن عليه وشدة البكاء ، ودفن في داره إلى أن نقل منها ، ودفن بباب حرب سنة ست عشرة وأربعمائة قال المصنف وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وشهورا .

3063 - عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران ، أبو أحمد بن أبي مسلم الفرضي المقرئ

: [ ص: 114 ]

سمع القاضي المحاملي ، ويوسف بن يعقوب ، وحضر مجلس أبي بكر ابن الأنباري ، وكان إماما ثقة ورعا .

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال : حدثني أبو القاسم منصور بن عمر الفقيه الكرخي ، قال : لم أر في الشيوخ من تعلم العلم لله خالصا لا يشوبه شيء من الدنيا غير أبي أحمد الفرضي ، فإنه كان يكره أدنى سبب حتى المديح لأهل العلم وكان قد اجتمعت فيه أدوات الرئاسة من قراءات وإسناد وحالة متسعة من الدنيا ، وكان أورع الخلق ، وكان يبتدئ كل يوم بتدريس القرآن ، ويحضر عنده الشيخ الكبير وذو الهيئة فتقدم عليه الحديث لأجل سبقه ، فإذا فرغ من إقراء القرآن تولى قراءة الحديث علينا بنفسه ، فلا يزال كذلك حتى يستنفد قوته ويبلغ النهاية في جهده في القراءة ، ثم يضع الكتاب من يده فحينئذ يقطع المجلس وينصرف ، وكنت أجالسه وأطيل القعود معه وهو على حالة واحدة لا يتحرك ولا يبعث بشيء من أعضائه ولا يغير شيئا من هيئته حتى أفارقه ، قال : وبلغني أنه كان يجلس مع أهله على هذا الوصف ، ولم أر في الشيوخ مثله .

أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن علي ، قال : حدثني عيسى بن أحمد الهمذاني ، قال : سمعت علي بن عبد الواحد بن مهدي ، يقول : اختلفت إلى أبي أحمد الفرضي ثلاث عشرة سنة لم أره ضحك فيها غير أنه قرأ علينا يوما (كتاب الانبساط فأراد أن يضحك فغطى فمه ، وكان إذا جاء إلى أبي حامد الإسفراييني قام أبو حامد من مجلسه ومشى إلى باب مسجده حافيا مستقبلا له .

قال : وكتب أبو حامد كتابا إلى أبي أحمد يشفع له أن يأخذ عليه القرآن فظن أبو أحمد أنها مسألة قد استفتى فيها ، فلما قرأ الكتاب غضب ورماه عن يده وقال : لا أقرئ القرآن بشفاعة أو كما قال . [ ص: 115 ]

توفي أبو أحمد في شوال هذه السنة ، ودفن في مقبرة جامع المدينة ، وقد بلغ ثنتين وثمانين سنة .

3064 - عبد الملك بن أبي عثمان واسم أبي عثمان محمد بن إبراهيم ، ويكنى عبد الملك أبا سعيد الواعظ :

من أهل نيسابور . حدث عن أبي عمرو بن مطر ، وإسماعيل بن نجيد . روى عنه الأزهري ، والأزجي ، والتنوخي ، وكان ثقة صالحا ورعا زاهدا ، وتوفي في هذه السنة .

3065 - محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو الحسن العلوي .

ولد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، ولقبه بهاء الدولة بالرضي ذي الحسبين ، ولقب أخاه بالمرتضى ذي المجدين ، وكان الرضي نقيب الطالبيين ببغداد ، حفظ القرآن في مدة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة ، وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا ، وكان عالما فاضلا وشاعرا مترسلا عفيفا عالي الهمة متدينا ، اشترى في بعض الأيام جزازا من امرأة بخمسة دراهم فوجد فيه جزءا بخط أبي عبد الله بن مقلة ، فقال للدلال : أحضر المرأة ، فأحضرها ، فقال : قد وجدت في الجزاز جزءا بخط ابن مقلة ، فإن أردت الجزء فخذيه وإن أردت ثمنه ، فهذه خمسة دراهم ، فأخذتها ودعت له وانصرفت وكان سخيا جوادا .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد عن أبي غالب بن بشران ، قال : حدثني الخالع ، قال : [ ص: 116 ]

مدحت الرضي بقصيدة فجاءني غلامه بتسعة وأربعين درهما ، فقلت : لا شك أن الغلام [قد ] خانني ، فلما كان بعد أيام اجتزت بسوق العروس فرأيت رجلا يقول لآخر :

أتشتري هذا الصحن فإنه يساوي خمسة دنانير ، ولقد أخرج من دار الشريف الرضي . فبيع بتسعة وأربعين درهما ، فعلمت أني مدحته وهو مضيق ، فباع الصحن وأنفذ الثمن إلي ، وكان شعر الرضي غاية في الحسن .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا الخطيب ، قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ ، وكان أحد الرؤساء ، يقول : سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون : إن الرضي أشعر قريش ، فقال ابن محفوظ : هذا صحيح ، وقد كان في قريش من يجيد القول إلا أن شعره قليل ، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي .

أخبرنا القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : أنشدني القاضي أبو العلاء الواسطي ، قال : أنشدنا الشريف الرضي لنفسه :


اشتر العز بما شئت فما العز بغالي     بالقصار الصفر إن شئت
أو السمر الطوال     ليس بالمغبون عقلا
من شرى عزا بمال     إنما يدخر المال
لحاجات الرجال     والغني من جعل الأموال
أثمان المعالي

[وله :


في الناس غير مطهر     والحر معدوم النظير
[ ص: 117 ] والغسل يخبث بعضه     ما كل ماء للطهور
لك دون أعراض الرجال     حمية الرجل الغيور
ولماء كفك في المحول     طلاقة العام المطير
آثار شكرك في فمي     وسليم ودك في ضميري ]

وله :


إلا أتى حسرة الحاسدين     وما حسرة العجم إلا العرب
فلا لبسوا غير هذا الشعار     ولا رزقوا غير هذا اللقب

[وله :


ذنبي إلى البهم الكوادن أنني     الطرف المطهم والأغر الأقرح
يولينني خزر العيون لأنني     غلست في طلب العلا وتصبحوا
وجذبت بالطول الذي لم يجذبوا     ومنحت بالغرب الذي لم يمنحوا
لو لم يكن لي في العيون مهابة     لم تطعن الأعداء في ويقدحوا
نظروا بعين عداوة لو أنها     عين الهوى لاستحسنوا ما استقبحوا ]

وله :


يا طائر البان غريدا على فنن     ما هاج نوحك لي يا طائر البان
هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به     أن الطليق يؤدي حاجة العاني
ضمانة ما جناها غير مقلته     يوم الوداع وأشواقي إلى الجاني
لولا تذكر أيامي بذي سلم     وعند رامة أوطاري وأوطاني
لما قدحت بنار الوجد في كبدي     ولا بللت بماء الدمع أجفاني

وأشعاره كثيرة مستحسنة ، وإنما ذكرت منها هذا . وجرت للرضي قصة مع القادر بالله في أبيات رفع إليه أنه قالها وهي [هذه ] : [ ص: 118 ]


كم مقامي على الهون وعندي     مقول قاطع وأنف حمي
وإباء محلق بي عن الضيم     كما راع طائر وحشي
أي عذر له إلى المجد إن ذل     غلام في غمده المشرفي
البس الذل في ديار الأعادي     وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولاي     إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيد الناس     جميعا محمد وعلي
إن خوفي في ذلك الربع أمن     وأوامي بذلك الورد ري
قد يذل العزيز ما لم يشمر     لانطلاق وقد يضام الأبي
كالذي يقبس الظلام وقد أقمر     من خلفه الهلال المضي

ولما كتب أصحاب الأخبار بهذه إلى القادر ، غاظه أمرها ، واستدعى القاضي أبا بكر محمد بن الطيب ، وأنفذه إلى الشريف الطاهر أبي أحمد برسالة في هذا المعنى ، فقال القاضي أبو بكر في الرسالة : "قد علمت موضعك منا ومنزلتك عندنا وما لا نزال من الاعتداد بك ، والثقة بصدق الموالاة منك ، وما تقدم لك في الدولة العباسية من خدم سابقة ومواقف محمودة ، وليس يجوز أن تكون على خليقة نرضاها ويكون والدك على ما يضادها ، وقد بلغنا أنه قال شعرا هو كذا فيا ليت شعرنا [على ] أي مقام ذل أقام ، وما الذي دعاه إلى هذا المقال ، وهو ناظر في النقابة والحج فيما في أجل الأعمال وأقصاها علوا في المنزلة ، وعساه لو كان بمصر لما خرج من جملة الرعية ، وما رأينا على بلوغ الامتعاض منا مبلغه أن تخرج بهذا الولد عن شكواه إليك وإصلاحه على يديك" .

فقال الشريف الطاهر : "والله ما عرفت هذا ولا أنا وأولادي إلا خدم الحضرة المقدسة المعترفون بالحق لها والنعمة منها ، وكان في حكم التفضل أن يهذب هذا الولد بإنفاذ من يحمله إلى الدار العزيزة ، ثم يتقدم في تأديبه بما يفعل ، بأهل الغرة والحداثة" . [ ص: 119 ]

فقال له القاضي [أبو بكر ] : الشريف يفعل في ذلك ما يراه الحضرة المقدسة ، فيزول ما خامرها به ثم استدعى الشريف ابنيه المرتضى والرضي ، وعاتب الرضي العتاب المستوفى .

فقال له : ما قلت هذه الأبيات ولا أعرفها . فقال له : إذا كنت تنكرها فاكتب خطك للخليفة بمثل ما كنت كتبت به في أمر صاحب مصر ، وأذكره بما أذكره به من الادعاء في نسبه ، فقال : لا أفعل ، فقال [له ] : كأنك تكذبني بالامتناع عن مثل قولي ، فقال : ما أكذبك ، ولكني أخاف الديلم ومن للرجل من الدعاة بهذه البلاد ، فقال : يا للعجب تخاف من هو منك على بلاد بعيدة وتراقبه وتسخط من أنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهلك ، وتردد القول بينهما حتى غلط الرضي في الجواب ، فصاح الطاهر أبو محمد ، وقام الرضي ، وحلف الطاهر أن لا يقيم معه في بلد ، وآل الأمر إلى إنفاذ القاضي أبي بكر وأبي حامد الإسفراييني ، وأخذا اليمين على الرضي أنه لم يقل الشعر المنسوب إليه ، ولا يعرفه واندرجت القصة على هذا .

توفي الرضي يوم الأحد لست خلون من محرم هذه السنة ، وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأشراف والقضاة والشهود والأعيان ، ودفن في داره بمسجد الأنباريين ، ومضى أخوه المرتضى إلى المشهد بمقابر قريش لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ، ودفنه وصلى عليه الوزير فخر الملك في الدار مع جماعة أمهم أبو عبد الله بن المهلوس العلوي ، ثم دخل الناس أفواجا ، فصلوا عليه ، وركب فخر الملك في آخر النهار فعزى المرتضى وألزمه العود إلى داره ففعل ، وكان مما رثاه أخوه المرتضى :


يا للرجال لفجعة جذمت يدي     ووددتها ذهبت علي برأسي
ما زلت أبي وردها حتى أتت     فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
ومطلتها زمنا فلما صممت     لم يثنها مطلي وطول مكاسي
لا تنكرن من فيض دمعي عبرة     فالدمع خير مساعد ومواسي
واها لعمرك من قصير طاهر     ولرب عمر طال بالأرجاس



[ ص: 120 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية