الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة مثلا بمثل من قبل أنه يكون متفاضلا في نحو ذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، والمشهور عن الشافعي في سائر كتبه الذي حكاه عنه جميع أصحابه ، أن بيع الدقيق بالحنطة لا يجوز بحال ، وبه قال أبو حنيفة ، وحكى الحسين الكرابيسي عن الشافعي جواز بيع الدقيق بالحنطة متفاضلا ، وجعلهما كالجنسين ، وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                                            [ ص: 109 ] وقال مالك ، وأحمد ، وإسحاق : يجوز بيع الدقيق بالحنطة متماثلا ، ثم اختلفوا في كيفية تماثله . فقال مالك : يصح تماثله بالكيل .

                                                                                                                                            وقال أحمد وإسحاق : لا يصح تماثله إلا بالوزن .

                                                                                                                                            فأما من ذهب إلى أنهما جنسان وجوز التفاضل بينهما ، وهو أبو ثور ، والكرابيسي في هذه الرواية ، فاستدل لذلك بشيئين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الدقيق لا يصير حنطة أبدا ، ولا شيء أبلغ في تنافي التجانس من هذا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو حلف لا يأكل حنطة فأكل دقيقا ، أو لا يأكل دقيقا فأكل حنطة لم يحنث ، ولو كانا جنسا واحدا لحنث بأكل واحد منهما .

                                                                                                                                            فأما من ذهب إلى أنهما جنس واحد ، وإن المماثلة بينهما حاصلة إما بالكيل أو بالوزن على حسب اختلافهم فيه ، فاستدل بأن الدقيق حنطة متفرقة الأجزاء ، وتفريق أجزائها يحدث فيها خفة في المكيال : وذلك لا يمنع من التساوي ، كما لو باع الحنطة خفيفة الوزن بكيلها حنطة ثقيلة الوزن لم يمنع من جواز البيع ، وإن علم اختلافهما في الوزن إذا تساويا في الكيل ، كذلك الدقيق بالحنطة .

                                                                                                                                            والدلالة على أن الدقيق والحنطة جنس واحد هو أن الدقيق نفس الحنطة ، وإنما تفرقت أجزاؤها ، وليس تفرق أجزائها بمخرج لها من جنسها ، كصحاح الدراهم ومكسورها . فإن قيل : مكسور الدراهم يصير صحاحا بالسبك ، والدقيق لا يصير حنطة أبدا . قلنا : ليس اختلاف الشيء بتنقل أحواله التي لا يعود إليها يوجب اختلاف جنسه : فإن التيس لا يعود جديا ، والتمر لا يعود رطبا ، والرطب لا يعود بسرا ، ثم لا يدل انتقاله إلى الحالة الثانية وتعذر عوده إلى الحال الأول على اختلاف الأجناس ، بل التمر من جنس الرطب وإن لم يصر رطبا ، كذلك الدقيق من جنس الحنطة وإن لم يصر حنطة .

                                                                                                                                            فأما الأثمان فمجهولة على عرف الأسامي ، والربا محمول على اعتبار المعاني ، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر . ألا تراه لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا لم يحنث ، ولا يدل ذلك على أن التمر والرطب جنسان .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن الدقيق والحنطة جنس واحد حرم التفاضل فيه ، ولم يصح اعتبار التماثل : أما بالوزن : فلأن أصله الكيل وما كان أصله الكيل فلا يجوز أن يعتبر تماثله بالوزن ، وأما الكيل : فلأن تفريق أجزاء الدقيق بالطحن واجتماع أجزاء الحنطة يحدث بينهما في المكيال اختلافا يحيط العلم بالفضل بينهما ، والتفاضل محظور بالنص .

                                                                                                                                            وليس هذا كالطعام الخفيف بالطعام الثقيل ، لأن أجزاء الجميع مجتمعة ، وإنما خفت [ ص: 110 ] أجزاء أحدهما وثقلت أجزاء الآخر ، وذلك غير معتبر فخالف الدقيق الذي قد تفرقت أجزاؤه ، فانبسطت بالحنطة التي قد انضمت أجزاؤها واجتمعت .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن بيع الدقيق بالحنطة لا يجوز ، فكذا ما حدث عن الدقيق من العجين والخبز والسويق لا يجوز بيعه بالحنطة ، أما العجين فلعلتين :

                                                                                                                                            إحداهما : ما ذكرنا من علة الدقيق .

                                                                                                                                            والثانية : دخول الماء فيه .

                                                                                                                                            وأما الخبز فلثلاث علل منها هاتان العلتان .

                                                                                                                                            والثالثة : دخول النار فيه . فأما السويق بالحنطة فلا يجوز لعلة واحدة كالدقيق بالحنطة .

                                                                                                                                            فصل : فإذا بيع الدقيق بالدقيق فعند الشافعي أنه لا يجوز ، وقال أبو حنيفة : يجوز .

                                                                                                                                            وقد رواه البويطي ، وحكاه المزني في مسائله المنثورة عن الشافعي لتساويهما في تفرق أجزائهما كما جاز بيع الحنطة بالحنطة لتساويهما في اجتماع أجزائهما ، ولم يجز بيع الدقيق بالحنطة لاجتماع أجزاء أحدهما وتفرق أجزاء الآخر . وهذا خطأ : لأن الدقيق وإن تفرقت أجزاء جميعه بالطحن فقد يكون طحن أحدهما أنعم ، فيكون تفريق أجزائه أكثر وهو في المكيال أجمع ، فيؤدي ذلك إلى التفاضل فيه : لأن الناعم المنبسط أكثر في المكيال من الخشن المجتمع ، أو يكون مجهول التماثل ، وأيهما كان فبيعه باطل : لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل . وإذا لم يجز بيع الدقيق بالدقيق فكذا لا يجوز بيع السويق بالدقيق لما ذكرنا من التعليل .

                                                                                                                                            فأما الخبز إذا يبس ودق فتوتا ناعما ، وبيع بعضه ببعض كيلا ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز : لأنه بعد اليبس والدق قد عاد أصله من قبل ، وقد حصل فيه التماثل بالكيل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني ، وهو أصح : لا يجوز : لأن الدقيق أقرب إلى التماثل من الخبز المدقوق الذي قد دخلته النار وأحالته ، فلما لم يجز بيع الدقيق بالدقيق ، فأولى ألا يجوز بيع الخبز المدقوق بالخبز المدقوق ، ولولا أن الوجه الأول مشهور من قول أصحابنا لكان إغفاله أولى : لمخالفته النص ومنافاته المذهب .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا اختلف الجنسان في بيع الدقيق بالدقيق ، أو الخبز بالدقيق جازه لجواز التفاضل فيه ، فعلى هذا يجوز بيع الدقيق البر بدقيق الشعير ، وخبز البر بخبز الشعير متفاضلا يدا بيد ، لاختلاف الجنسين : لأن الشعير من غير جنس البر .

                                                                                                                                            [ ص: 111 ] وقال مالك : البر والشعير جنس واحد ، فلا يجوز التفاضل بينهما . وبه قال حماد ، والليث بن سعد .

                                                                                                                                            استدلالا بحديث معمر بن عبد الله أنه وجه بغلام له ومعه صاع من بر ، فقال : اشتر به شعيرا ، فاشترى به صاعا من شعير ، وازداد صاعا آخر ، فلما رجع قال له : لم فعلت هذا . رده فإني كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : الطعام بالطعام مثل بمثل . قال : وطعامنا يومئذ الشعير .

                                                                                                                                            فدل هذا الحديث على تحريم التفاضل بين البر والشعير وأنهما جنس واحد .

                                                                                                                                            قال : ولأن البر والشعير يتقاربان في المنفعة ويمتزجان في المشاهدة فجريا مجرى شامي وحبشاني .

                                                                                                                                            والدلالة على أنهما جنسان حديث عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ولكن بيعوا البر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر ، كيف شئتم يدا بيد " .

                                                                                                                                            فجوز التفاضل بينهما نصا مع قوله : فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم . فدل على أنهما جنسان .

                                                                                                                                            ولأن الشعير مخالف للبر في صفته وخلقته ومنفعته ، وإن قاربه من وجه ، فحل من البر محل الزبيب من التمر ، فاقتضى أن يكونا جنسين كما أن الزبيب من التمر جنسان .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث معمر بن عبد الله فهو أن الدليل من الخبر قول معمر دون روايته ، وليس مجرد قوله حجة مع مخالفة غيره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما استدل به من تقاربهما في المنفعة وامتزاج أحدهما بالآخر ، فليس تقاربهما في المنفعة بموجب لاتفاقهما في الجنس كالتمر والزبيب . وليس امتزاج أحدهما بالآخر دليلا على أنهما جنس كالتراب الممتزج بالبر والشعير والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية