الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وكل ثمرة وزرع دونها حائل من قشر أو كمام وكانت إذا صارت إلى ما يكنها أخرجوها من قشرها وكمامها بلا فساد عليها إذا ادخروها ، فالذي اختار فيها أن لا يجوز بيعها في شجرها ولا موضوعة بالأرض للحائل ، وقياس ذلك على شراء لحم شاة مذبوحة عليها جلدها للحائل دون لحمها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الثمار كلها ضربان :

                                                                                                                                            ضرب يكون بارزا في شجرة من غير حائل يمنع من مشاهدته كالتفاح والمشمش والخوخ والكمثرى ، فبيعه إذا بدا صلاحه جائز قائما في شجره وبعد اجتنابه .

                                                                                                                                            [ ص: 198 ] وضرب يكون مستورا بقشر وكمام يمنع من مشاهدته وهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون مستورا بقشرة واحدة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون مستورا بقشرتين .

                                                                                                                                            فأما ما كان مستورا بقشرة واحدة فيتنوع نوعين :

                                                                                                                                            أحدهما : نوع لا ينحفظ إلا بقشرة ، فإذا خرج منه ذهبت رطوبته وتغير طعمه وأسرع فساده كالرمان والباذنجان ، فبيع هذا في قشوره جائز : لما فيه من كمال منفعته ودوام مصلحته .

                                                                                                                                            ونوع ينحفظ بغير قشره كالقطن والسمسم والعدس ، فلا يجوز بيعه في قشره : لأنه حائل ليس من مصلحته ، كما لو كان مستورا بثوب فإذا أخرجوه من قشره جاز بيعه .

                                                                                                                                            وأما ما كان عليه قشرتان فيتنوع أيضا إلى نوعين :

                                                                                                                                            - نوع لا يبقى في رطبه بقشرتيه نفع ولا يؤكل معهما ، كالفستق والبندق والجوز ، فلا يجوز بيعه في قشرتيه يابسا ولا رطبا ، فإذا زالت عنه القشرة العليا ، جاز بيعه بالقشرة السفلى التي يدخر بها : لأنه ينحفظ بها .

                                                                                                                                            - ونوع يبقى في رطبه بقشرتيه ويؤكل معهما عرفا ، كالباقلى واللوز الرطب ، فإذا يبس لم يجز بيعه في قشرتيه ، فقد اختلفت أصحابنا في جواز بيعه فيهما ، فذهب البصريون من أصحابنا إلى جواز بيعه في قشرتيه رطبا اعتبارا بكمال نفعه واستطابة أكله ، وهو أيضا قول أبي سعيد الإصطخري .

                                                                                                                                            وذهب البغداديون إلى المنع من بيعه في قشرتيه رطبا ، كما يمنع منه إذا كان يابسا ، فهذا شرح مذهبنا فيما كان من الثمار مستورا بقشرة أو كمام .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : كل قشر أو كمام كان ساترا للثمرة جاز بيعها معه بكل حال ، سواء كان فيه مصلحة أم لا ، تعويلا على أنه من أصله الخلقة فجرى مجرى أجل الثمرة . وتعليقا بأنه لما جاز بيعه بإحدى قشرتيه ، وهي مانعة من مشاهدته ، جاز بيعه في قشرتيه : إذ ليس فيهما أكثر من المنع من مشاهدته : لأن ما كانت رؤيته شرطا لم يقع الفرق فيه بين أن يكون مستورا بحائل أو حائلين في بطلان العقد عليه ، كالعروض المبيعة ، وما لم تكن رؤيته شرطا لم يقع الفرق فيه بين أن يكون مستورا بحائل أو حائلين في صحة العقد عليه كالمنكوحة .

                                                                                                                                            ودليلنا : نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وفي بيعه مستورا بقشرة ليست من مصلحته غرر ، لأنه يمنع من معرفة جيده ورديئه ، ولأن ما منع من مشاهدته وليس من مصلحته فلا فرق فيه بين أن يكون من أصل خلقته أو من غير خلقته في بطلان البيع به ، كلحم الشاة المذبوحة في جلدها والحنطة في تبنها والفضة والذهب في تراب معدنها ، فلما كانت هذه كلها بيوعا فاسدة : لأنها مستورة بما يمنع من مشاهدتها ، وإن كانت من خلقة أصلها وجب أن يكون حكم الثمار مثلها .

                                                                                                                                            [ ص: 199 ] وقد يتحرز من اعتلال هذا الاستدلال قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مستور بما ليس من مصلحته ، فوجب أن مبطلا لبيعه كما لو كان مستورا بثوب .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مبيع يبطل بما يستره من غير الخلقة فوجب أن يبطل بستر ما لا مصلحة وإن كان من أصل الخلقة كاللحم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله بأن القشر من أجزائه ففاسد بالجلد ، وهو من أجزاء اللحم ، ويمنع من جواز البيع : لأن المعتبر برؤيته الأجزاء المقصودة دون ما ليس بمقصود .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن تعليقه بأنه مستور بإحدى قشرتيه فجاز أن يكون مستورا بالقشرة الأخرى ، وهو أن إحدى القشرتين من مصلحته ، وفي رؤيتهما تنبيه على جودته ورداءته ، ولا يقتضي ذلك جواز ستره بحائل من ثوب ، فكذا بالقشرة العليا التي هي بهذا الحكم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية