[ ص: 220 ] باب البيع قبل القبض
مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا
مالك ، عن
نافع ، عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923070 " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " وقال
ابن عباس : أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطعام أن يباع حتى يكتال ، وقال
ابن عباس برأيه : ولا أحسب كل شيء إلا مثله ( قال
الشافعي ) وإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض : لأن ضمانه من البائع ، ولم يتكامل للمشتري فيه تمام ملك فيجوز به البيع ، كذلك قسنا عليه بيع العروض قبل القبض : لأنه بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال : كل من ابتاع شيئا من طعام أو غيره لم يجز بيعه قبل قبضه .
وقال
مالك : لا يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=4673_4471بيع الطعام قبل قبضه ، ويجوز
nindex.php?page=treesubj&link=4673_4471بيع ما ليس بطعام مأكول قبل قبضه ، وقال
سعيد بن المسيب والحسن البصري : لا يجوز بيع ما يكال ويوزن قبل قبضه ، ويجوز بيع ما لا يكال ولا يوزن قبل قبضه ، وبه قال
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهو مذهب
أحمد بن حنبل .
وقال
أبو حنيفة : لا يجوز بيع ما ينقل ويحول قبل قبضه ، ويجوز بيع ما لا ينقل ولا يحول قبل قبضه .
واستدلوا جميعا في الجملة بحديث
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923070 " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " . فحمله
مالك على المطعوم ، وحمله
سعيد بن المسيب على أنه مكيل موزون ، وحمله
أبو حنيفة على أنه محمول منقول ، وكل مستنبط منه معنى مذهبه ، قالوا : ولأن البيع يجمع ثمنا ومثمنا ، فلما جاز بيع الثمن قبل قبضه حتى إن كان الثمن دراهم جاز أن يأخذ مكانها متاعا أو عوضا ، وجب أن يجوز بيع المثمن قبل قبضه ، حتى إن كان متاعا جاز أن يأخذ مكانه دراهم أو دنانير ، وتحرير ذلك علة أنه أخذ عوض البيع فجاز بيعه قبل قبضه كالثمن ، ولأن بيع ما لم يقبض إنما هو إزالة ملكه عنه .
فلما جاز للمشتري أن يزيل ملكه عما لم يقبضه بالعتق والاستهلاك ، جاز أن يزيل
[ ص: 221 ] ملكه عنه بالبيع ، وتحرير ذلك علة أنه أحد نوعين ما يزيل به الملك فجاز فيما لم يقبض كالعتق .
ثم انفرد
أبو حنيفة مستدلا لمذهبه بأن قال : حقيقة القبض هو النقل والتحويل فيما يمكن نقله وتحويله تنتفي عنه حقيقة القبض ، فاقتضى أن لا يكون لقبضه تأثير في جواز التصرف فيه بالبيع وغيره ، قال : ولأن ما لا ينقل مأمون الهلاك ، فلا يلحق العقد فسخ بتلفه في يد بائعه ، فجاز بيعه للأمن من فسخه ، وتحرير ذلك قياسا أنه مملوك بعقد لا يخشى انفساخه بهلاكه فوجب أن يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره كالمقبوض ، ولأنه مملوك مأمون الفساد فجاز بيعه قبل قبضه كالميراث .
ولأن المشتري يزيل ملكه بالبيع كما يزال ملكه بالشفعة فلما جاز أخذه بالشفعة قبل القبض جاز بيعه قبل القبض ، وتحرير ذلك قياسا أنه عقار ملك على المشتري بعوض فلم يمنع منه تأخر القبض كالشفعة .
ودليلنا رواية
عبد الله بن عصمة أن
حكيم بن حزام حدثه أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923071يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم ؟ قال : " إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ، ولا تبع ما ليس عندك " . فكان هذا النص عاما في كل مبيع ، وروى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=923072نهى عن nindex.php?page=treesubj&link=4790ربح ما لم يضمن " .
والمبيع قبل القبض غير مضمون على المشتري بدليل أن ما حدث به من عيب يستحق به المشتري الفسخ : لأنه من ضمان البائع ، ثم قد منعه النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الربح فيه بالبيع ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم " لما بعث
عتاب بن أسيد إلى
مكة قال له : "
انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا " وهذا نص : ولأنه بيع ما لم يقبضه المشتري ، فوجب أن لا يجوز له بيعه كالمطعوم مع
مالك ، والمنقول مع
أبي حنيفة ، ولأن ملك المبيع لا يستقر إلا بالقبض بدليل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=278وذروا ما بقي من الربا [ البقرة : 278 ] ففصل بين ما قبض ، فلم يوجب رده لاستقرار ملكه وبين ما لم يقبض فأوجب رده لعدم ملكه ، ولأن الصرف يزول فيه ملك المشتري بتأخر القبض ، وإن لم يستقر الملك على ما لم يقبض لم يجز بيعه : لأن بيع ما لم يستقر ملكه باطل ، ولأن بيع ما لم يقبض غير مقدور على تسليمه ، وبيع ما لا يقدر على تسليمه باطل ، كالعبد الآبق والجمل الشارد ، وعلى
أبي حنيفة خاصة أن كل حكم كان القبض فيه معتبرا بالنقل والتحويل إن كان منقولا كان القبض فيه معتبرا بالتخلية والتمكين ، إن لم يكن منقولا . أصله تمام الهبة ولزوم الرهن
[ ص: 222 ] وانتقال ضمان المبيع إلى المشتري يستوي فيه ما ينقل وما لا ينقل في اعتبار القبض فيه كذلك البيع .
وأما الجواب عن استدلالهم بحديث
ابن عمر ، فهو أنه لا دليل فيه من وجهين : أنه بعض ما شمله عموم خبرنا فلم يعارضه : لأنه لم ينافيه . والثاني : أن تعلقه لا يحج ، ودليل الخطاب فيه لا يسلم : لأن
الشافعي إنما يجعل الخطاب دليلا إذا علق بعدد أو صفة ، فتعلقه بالعدد كقوله "
في أربعين شاة شاة " "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923073وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " ، وتعليقه بالصفة كقوله
في سائمة الغنم زكاة "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923074ولا وصية لوارث ، وأما دليل الخطاب في الأسماء فلا نقول به وهو هاهنا معلق بالاسم ، وإنما كان
أبو بكر بن الدقاق من أصحابنا يقول بدليل الخطاب في الأسماء ، ولو التزم هذا المذهب في دليل الخطاب ، لم نسلم في هذا الموضع : لأن الخبر تنبيها يدفع دليل خطابه ، وهو أن تعليقه النهي بالطعام مع كثرة بياعاته وحدوث الحاجة إلى المسامحة في عقود تنبيها على أن غير الطعام أولى بالنهي فكان دليل الخطاب مدفوعا به .
وأما الجواب عن جمعهم بين الثمن والمثمن واستشهادهم بجواز المعاوضة على الثمن قبل قبضه ، فمنتقض على قول
مالك بالمطعوم ، وعلى قول
أبي حنيفة بالمنقول ، ثم المعنى في الثمن استقرار ملك البائع عليه ، قبل قبضه فجاز أن يعاوض عليه بأخذ بدله ، والمثمن لم يستقر ملك المشتري عليه قبل قبضه فلم يجز أن يعاوض عليه .
وأما الجواب عن قياسهم على العتق فالمعنى في العتق أنه استهلاك لا تعتبر فيه الشروط المعتبرة في العقود ، كما يجوز أن يستهلك المطعوم والمنقول قبل قبضه ، ولا يجوز أن يبيعه قبل قبضه
وأما الجواب عن قياس
أبي حنيفة ما لا ينقل على المقبوض بعلة أنه لا يجيز انفساخ العقد بهلاكه ، فينتقض بمن اشترى طعاما كيلا وقبضه جزافا قد أمن فسخ البيع بهلاكه ، ولا يجوز بيعه قبل كيله ، وفي العكس من اشترى علو دار ليس يأمن فسخ العقد بهلاكه ، ويجوز بيعه قبل قبضه ، ثم يقول المعنى في المقبوض أنه صار من ضمان المشتري ، فجاز بيعه وما لم يقبض وإن كان غير منقول ، ليس من ضمان المشتري فلم يجز بيعه ، وكذا الجواب عن الميراث أنه جاز له بيعه قبل قبضه : لأنه من ضمانه
وأما الجواب عن قياسهم على الشفعة فهو أنه لا يصح على أصلهم : لأن مذهبهم أنه مأخوذ بالشفعة من البائع دون المشتري ، وكذلك يجب عندهم عهدة الشفيع على البائع دون المشتري ، ثم على أصلنا أن الشفعة مستحقة على المشتري لا نسلم بهذا القياس : لأن الشفعة تستحق جبرا فلم يفتقر
[ ص: 223 ] ثبوتها إلى جواز التصرف فجاز قبل القبض ، وإن عدم التصرف والبيع عقد تراض يفتقر ثبوته إلى جواز التصرف ، فلم يجز قبل القبض لعدم التصرف .
وأما القسم الثاني : وهو ما لا ينفذ فيه تصرفه فيه فهو ما كان من عقود المعاوضات ، كصداق الزوجات ، أو أجور المستأجرات ، أو عقود الإجارات ، أو صلح في حقوق ومطالبات ، فكل هذا وما شاكله باطل ، فإذا جعل المبيع صداقا لزوجة في عقد النكاح بطل الصداق ، ولم يبطل النكاح ، ولو جعله أجرة لدار استأجرها كانت الإجارة باطلة : لوهاء تصرفه في الأجرة ، ولو كان المبيع دارا فأجرها بطلت الإجارة لوهاء تصرفه في الدار المؤجرة ، ولو جعله صلحا على دين كان صلحا باطلا : لأن الصلح بيع .
وأما القسم الثالث : وهو ما اختلف قوله فيه : فالكتابة ، والرهن ، والهبة ، فإذا كاتب العبد الذي ابتاعه قبل قبضه ، ففي الكتابة قولان : أصحهما باطلة : لأنها عقد معاوضة . والثانية : صحيحة : لأن المغلب فيها العتق . وأما الرهن فإن كان الثمن باقيا على المشتري أو بعضه كان رهنه باطلا : لأنه مرهون على ثمنه ، وإن كان قد دفع جميع ثمنه ففي جواز رهنه قولان : أحدهما : باطل : لأنه ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه .
والثاني : جائز : لأنه لما جاز أن يكون مرهونا على ثمنه جاز أن يكون مرهونا على غير ثمنه .
وأما هبته قبل قبضه ففيها قولان : من اختلاف قوليه هل يلزم فيها المكافأة أم لا ، فإذا قيل : بوجوب المكافأة فيها بطلت الهبة : لأنها معاوضة . وإذا قيل : إن المكافأة لا تجب فيها صحت الهبة ، فإن كانت لأجنبي احتاج الواهب أن يقبضها من البائع بنفسه ، أو وكيله ليستقر له ملكها ويسقط عن البائع ضمانها ، ثم يدفعا إلى الموهوب له ليتم له هبتها ، فلو أذن الواهب للموهوب له أن يقبضها من البائع قبضها منه لم يصح : لأنهما عقدان يلزم في كل واحد منهما القبض ، فلم يكن العقد واحدا نايبا عن عقدين ، ثم ينظر فإن كان الموهوب له قبضها لنفسه لم يكن ذلك قبضا لا عن البيع ولا عن الهبة ، أما عن البيع فلأن القبض لم يكن للمشتري ، وأما عن الهبة فلأنه لا يصح إلا بعد قبض المبيع ، والبائع ضامن لها بالثمن ، حتى لو تلف بطل البيع لعدم القبض فيه ، والمشتري الواهب ضامن لها بالقيمة حتى إن تلفت غرمها للبائع : لأنها مقبوضة عن أجرة بوجه معاوضة .
وهل يكون الموهوب له ضامنا بالقبض أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : لا ضمان عليه : لأنه ليس معاوضة .
والثاني : عليه الضمان : لأن يده دخلت من جهة الواهب ، فإن كان الموهوب له قبضها للواهب المشتري صح القبض في البيع وبرئ البائع من الضمان وضمنها المشتري بالثمن
[ ص: 224 ] ولا ضمان على الموهوب له بالقبض : لأنه وكيل للواهب فيه : ويحتاج إلى استيثاق قبض لتتم به الهبة ، فإن أذن له الواهب في قبض ذلك من نفسه لم يصح أن يكون قابضا من نفسه مقبضا لها والله أعلم .
[ ص: 220 ] بَابُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " أَخْبَرَنَا
مَالِكٌ ، عَنْ
نَافِعٍ ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923070 " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُكْتَالَ ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ بِرَأْيِهِ : وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) وَإِذَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُقْبَضَ : لِأَنَّ ضَمَانَهُ مِنَ الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَتَكَامَلْ لِلْمُشْتَرِيَ فِيهِ تَمَامُ مِلْكٍ فَيَجُوزُ بِهِ الْبَيْعُ ، كَذَلِكَ قِسْنَا عَلَيْهِ بَيْعَ الْعُرُوضِ قَبْلَ الْقَبْضِ : لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا كَمَا قَالَ : كُلُّ مَنِ ابْتَاعَ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=4673_4471بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=4673_4471بَيْعُ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ مَأْكُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَبِهِ قَالَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا فِي الْجُمْلَةِ بِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923070 " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ " . فَحَمَلَهُ
مَالِكٌ عَلَى الْمَطْعُومِ ، وَحَمَلَهُ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَلَى أَنَّهُ مُكَيَّلٌ مَوْزُونٌ ، وَحَمَلَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ مَنْقُولٌ ، وَكُلٌّ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ مَعْنَى مَذْهَبِهِ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا ، فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهَا مَتَاعًا أَوْ عِوَضًا ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْمُثَمَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ مَتَاعًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ الْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ مِلْكِهِ عَنْهُ .
فَلَمَّا جَازَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَمَّا لَمْ يَقْبِضْهُ بِالْعِتْقِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ
[ ص: 221 ] مِلْكَهُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةً أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْنِ مَا يُزِيلُ بِهِ الْمِلْكَ فَجَازَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ كَالْعِتْقِ .
ثُمَّ انْفَرَدَ
أَبُو حَنِيفَةَ مُسْتَدِلًّا لِمَذْهَبِهِ بِأَنْ قَالَ : حَقِيقَةُ الْقَبْضِ هُوَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ تَنْتَفِي عَنْهُ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ لِقَبْضِهِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، قَالَ : وَلِأَنَّ مَا لَا يُنْقَلُ مَأْمُونَ الْهَلَاكِ ، فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدَ فَسْخٌ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ بَائِعِهِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِلْأَمْنِ مِنْ فَسْخِهِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِعَقْدٍ لَا يُخْشَى انْفِسَاخُهُ بِهَلَاكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَأْمُونُ الْفَسَادِ فَجَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمِيرَاثِ .
وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُزِيلُ مِلْكَهُ بِالْبَيْعِ كَمَا يُزَالُ مِلْكُهُ بِالشُّفْعَةِ فَلَمَّا جَازَ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازِ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقَارُ مِلْكٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ تَأَخُّرُ الْقَبْضِ كَالشُّفْعَةِ .
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ أَنَّ
حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923071يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ ؟ قَالَ : " إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ " . فَكَانَ هَذَا النَّصُّ عَامًّا فِي كُلِّ مَبِيعٍ ، وَرَوَى
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=923072نَهَى عَنْ nindex.php?page=treesubj&link=4790رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ " .
وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّ مَا حَدَثَ بِهِ مِنْ عَيْبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ : لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، ثُمَّ قَدْ مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا بَعَثَ
عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إِلَى
مَكَّةَ قَالَ لَهُ : "
انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَرِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا " وَهَذَا نَصٌّ : وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ بَيْعُهُ كَالْمَطْعُومِ مَعَ
مَالِكٍ ، وَالْمَنْقُولِ مَعَ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=278وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [ الْبَقَرَةِ : 278 ] فَفَصَلَ بَيْنَ مَا قُبِضَ ، فَلَمْ يُوجِبْ رَدَّهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ الصَّرْفَ يَزُولُ فِيهِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي بِتَأَخُّرِ الْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ : لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَبَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَاطِلٌ ، كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ ، وَعَلَى
أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبِرًا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ إِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبَرًا بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا . أَصْلُهُ تَمَامُ الْهِبَةِ وَلُزُومُ الرَّهْنِ
[ ص: 222 ] وَانْتِقَالُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي يَسْتَوِي فِيهِ مَا يُنْقَلُ وَمَا لَا يُنْقَلُ فِي اعْتِبَارِ الْقَبْضِ فِيهِ كَذَلِكَ الْبَيْعُ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ ، فَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَنَّهُ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ عُمُومُ خَبَرِنَا فَلَمْ يُعَارِضْهُ : لِأَنَّهُ لِمَ يُنَافِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَعَلُّقَهُ لَا يُحَجُّ ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ فِيهِ لَا يَسْلَمْ : لِأَنَّ
الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا يَجْعَلُ الْخِطَابَ دَلِيلًا إِذَا عُلِّقَ بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْعَدَدِ كَقَوْلِهِ "
فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً " "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923073وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا " ، وَتَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ كَقَوْلِهِ
فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923074وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ فَلَا نَقُولُ بِهِ وَهُوَ هَاهُنَا مُعَلَّقٌ بِالِاسْمِ ، وَإِنَّمَا كَانَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي الْأَسْمَاءِ ، وَلَوِ الْتَزَمَ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ ، لَمْ نُسَلِّمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : لِأَنَّ الْخَبَرَ تَنْبِيهًا يَدْفَعُ دَلِيلَ خِطَابِهِ ، وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَهُ النَّهْيَ بِالطَّعَامِ مَعَ كَثْرَةِ بَيَاعَاتِهِ وَحُدُوثِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فِي عُقُودٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ مَدْفُوعًا بِهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَاسْتِشْهَادِهِمْ بِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَمُنْتَقِضٌ عَلَى قَوْلِ
مَالِكٍ بِالْمَطْعُومِ ، وَعَلَى قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ بِالْمَنْقُولِ ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الثَّمَنِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ ، قَبْلَ قَبْضِهِ فَجَازَ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ بَدَلِهِ ، وَالْمُثَمَّنُ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِتْقِ فَالْمَعْنَى فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْعُقُودِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَطْعُومَ وَالْمَنْقُولَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ
أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَا يُنْقَلُ عَلَى الْمَقْبُوضِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ لَا يُجِيزُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ ، فَيَنْتَقِضُ بِمَنِ اشْتَرَى طَعَامًا كَيْلًا وَقَبَضَهُ جُزَافًا قَدْ أَمِنَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِهَلَاكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ كَيْلِهِ ، وَفِي الْعَكْسِ مَنِ اشْتَرَى عُلُوَّ دَارٍ لَيْسَ يَأْمَنُ فَسْخَ الْعَقْدِ بِهَلَاكِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ الْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ أَنَّهُ صَارَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، فَجَازَ بَيْعُهُ وَمَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، لَيْسَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ : لِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الشُّفْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِمْ : لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا نُسَلِّمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ : لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْتَحِقُّ جَبْرًا فَلَمْ يَفْتَقِرْ
[ ص: 223 ] ثُبُوتُهَا إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فَجَازَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّ عَدَمَ التَّصَرُّفِ وَالْبَيْعِ عَقْدُ تَرَاضٍ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ ، فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْقَبْضِ لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا لَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، كَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ ، أَوْ أُجُورِ الْمُسْتَأْجِرَاتِ ، أَوْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ ، أَوْ صُلْحٍ فِي حُقُوقٍ وَمُطَالَبَاتٍ ، فَكُلُّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَعَلَ الْمَبِيعَ صَدَاقًا لِزَوْجَةٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَطَلَ الصَّدَاقُ ، وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ ، وَلَوْ جَعَلَهُ أُجْرَةً لِدَارٍ اسْتَأْجَرَهَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً : لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الْأُجْرَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَأَجَّرَهَا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِوَهَاءِ تَصَرُّفِهِ فِي الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ ، وَلَوْ جَعَلَهُ صُلْحًا عَلَى دَيْنٍ كَانَ صُلْحًا بَاطِلًا : لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ : فَالْكِتَابَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالْهِبَةُ ، فَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ الَّذِي ابْتَاعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَفِي الْكِتَابَةِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا بَاطِلَةٌ : لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ . وَالثَّانِيَةُ : صَحِيحَةٌ : لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا الْعِتْقُ . وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ بَعْضَهُ كَانَ رَهْنُهُ بَاطِلًا : لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ جَمِيعَ ثَمَنِهِ فَفِي جَوَازِ رَهْنِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : بَاطِلٌ : لِأَنَّهُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ .
وَالثَّانِي : جَائِزٌ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى ثَمَنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ .
وَأَمَّا هِبَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُ فِيهَا الْمُكَافَأَةُ أَمْ لَا ، فَإِذَا قِيلَ : بِوُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ فِيهَا بَطُلَتِ الْهِبَةُ : لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ . وَإِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا صَحَّتِ الْهِبَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ احْتَاجَ الْوَاهِبُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ وَكِيلِهِ لِيَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكُهَا وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَائِعِ ضَمَانُهَا ، ثُمَّ يَدْفَعَا إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِيَتِمَّ لَهُ هِبَتُهَا ، فَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنَ الْبَائِعِ قَبَضَهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ : لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضُ ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ وَاحِدًا نَايِبًا عَنْ عَقْدَيْنِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا لَا عَنِ الْبَيْعِ وَلَا عَنِ الْهِبَةِ ، أَمَّا عَنِ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي ، وَأَمَّا عَنِ الْهِبَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَالْبَائِعُ ضَامِنٌ لَهَا بِالثَّمَنِ ، حَتَّى لَوْ تَلَفَ بَطَلَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ ، وَالْمُشْتَرِي الْوَاهِبُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقِيمَةِ حَتَّى إِنْ تَلِفَتْ غَرَّمَهَا لِلْبَائِعِ : لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَنْ أُجْرَةٍ بِوَجْهِ مُعَاوَضَةٍ .
وَهَلْ يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنًا بِالْقَبْضِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوَضَةً .
وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الضَّمَانُ : لِأَنَّ يَدَهُ دَخَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَهَا لِلْوَاهِبِ الْمُشْتَرِي صَحَّ الْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ وَبَرِئَ الْبَائِعُ مِنَ الضَّمَانِ وَضَمِنَهَا الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
[ ص: 224 ] وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ : لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ لِلْوَاهِبِ فِيهِ : وَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِيثَاقِ قَبْضٍ لِتَتِمَّ بِهِ الْهِبَةُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ مُقْبِضًا لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .