الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا تنازعا شاة مذبوحة وكان في يد أحدهما رأسها وجلدها وسقطها ، وفي يد الآخر مسلوخها ، وادعى كل واحد منهما أن جميعها له ، وأقام على ذلك بينة حكم لكل واحد منهما بملك ما في يده ، لأن له بما في يده بينة داخل ، وفيما بيد صاحبه بينة خارج ، فقضى ببينة الداخل على بينة الخارج .

                                                                                                                                            وحكم أبو حنيفة لكل واحد منهما ، بما في يد صاحبه ، لأنه يقضي ببينة الخارج على بينة الداخل ، ولو كان كل واحد منهما يدعي تلك الشاة ، وأنها نتجت في ملكه ، وأقام بها بينة ، وأمضى أبو حنيفة على أنه يحكم لكل واحد منهما بملك ما في يده ، لأنه موافق على القضاء ببينة الداخل في النتاج ، ويخالف في غيره ، فيقضي ببينة الخارج في غير النتاج .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو شهدوا أن هذا الغزل من قطن فلان جعلته لفلان " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا شهدوا أن هذا الغزل من قطن زيد ، كانت شهادة بملك زيد للغزل ، لأنه عين القطن وإن غيرته الصنعة ، بخلاف شهادتهم أن هذه الجارية بنت أمته لأنها غير أمته .

                                                                                                                                            وهكذا لو شهدوا أن هذا الثوب من غزل زيد كانت شهادة له بملك الثوب ، لأنه القطن بعينه ، وإن تغير بالغزل والنساجة .

                                                                                                                                            [ ص: 370 ] وجعلها أبو حنيفة شهادة بالقطن ، دون الثوب ، والغزل ، وبنى ذلك على أصله أن الغاصب إذا عمل في المغصوب بما يغير عن حاله ، كان أحق به من مالكه وغرم له بدل أصله ، وقد مضى الكلام معه في الغصب ، وأن مالكه أحق به من غاصبه .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن كانت قيمة الثوب منسوجا أكثر من قيمته غزلا ، وقطنا ، وهو الأغلب لم يرجع صاحب اليد بزيادته على المالك .

                                                                                                                                            وإن كان أقل وهو نادر ، رجع المالك بنقصانه على صاحب اليد من أكثر قيمته قطنا ، أو غزلا ، وهكذا القول في نظائر هذا إذا شهدوا أن هذا الدقيق من حنطة زيد ، وهذه الدنانير من ذهبه ، وهذه الدراهم من فضته ، وهذه النخلة من نواته ، وهذا الزرع من بذره ، كانت له شهادة بملك ذلك ، سواء كان بعمل صاحب اليد ، أو بغير عمله ، وعند أبي حنيفة : إن تغير بعمل صاحب اليد ملكه .

                                                                                                                                            فعلى هذا يقول إن نبتت النواة نخلة بنفسها ، ونبت البذر في الأرض بنفسه ، كان لمالكه ، وإن كان بعمل صاحب اليد ، كان له ، ويقول في رجل غصب دجاجة ، فباضت بيضتين حضنت الدجاجة إحداهما حتى صارت فرخا وحضن الغاصب الأخرى ، إما تحت الدجاجة ، أو تحت غيرها حتى صارت فروجا كان الفرخ الأول لمالك الدجاجة ، والفروج الثاني للغاصب .

                                                                                                                                            وجميع ذلك كله عندنا لمالك أصله على ما بيناه .

                                                                                                                                            ولكن لو شهدوا أن هذا الزرع من ضيعته ، لم يكن ذلك شهادة له بملك الزرع ، لأنه قد يجوز أن يكون زرع أرضه لغيره ، وهذا مما اتفقنا نحن وأبو حنيفة عليه .

                                                                                                                                            فإن قيل : أفتكون هذه شهادة له باليد على الزرع ؟ نظر ، فإن لم يقولوا زرع فيها ، وهي على ملكه لم تكن شهادة له باليد ، لجواز زرعه فيها ، وحصاده قبل ملكه ويده وإن قالوا : زرع وحصد في ملكه ، كانت شهادة له بيد متقدمة ، فيكون عند البويطي ، وابن سريج ، على قولين كالشهادة بالملك القديم يوجب ثبوت يده في الحال ، وإحلافه على الزرع أنه ملكه .

                                                                                                                                            والثاني : لا يوجب ثبوت يده ، ولا يحلف على ملكه .

                                                                                                                                            والذي عليه أصحابنا أنه لا يحكم له باليد قولا واحدا لما بيناه ، ولا يحلف عليه ، ويكون القول فيه قول صاحب اليد في الحال مع يمينه ، فإن أقام صاحب الأرض بأداء خراجه أو بدفع عشره إلى المستحق لقبض خراجه وعشره لم يملكه ، لأنه قد ينوب في أدائه عن مالكه .

                                                                                                                                            [ ص: 371 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا كان في يديه صبي صغير يقول : هو عبدي ، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملته أنه لا يخلو حال هذا الموجود ، إذا ادعاه الواجد عبدا من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون بالغا عاقلا ، فتعتبر حاله فإن أنكر الرق ، وقال أنا حر ، فالقول قوله مع يمينه ، ولا تقبل دعوى واجده في ادعائه ، لأن الأصل الحرية ، والرق طارئ ، فكان الظاهر معه فلو عاد بعد إنكاره للرق ، فأقر لواجده بالرق لم يقبل إقراره وكان على الحرية حتى يقيم مدعيه بينة برقه ، لأن من أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق ، وإن كان هذا أقر بالرق حين أخذه الواجد ، وأنكر أن يكون مملوكا لهذا الواجد المدعي لرقه ، فلا اعتبار بإنكاره ، لأن العبد لا يد له على نفسه ، ويقر في يد مدعيه ، لأنه ليس له منازع فيه ويجبر العبد على المقام معه ، فإن حضر من ادعاه ، ونازعه فيه كان للأول يد ، وليس للثاني يد ، فيكون القول فيه قول الأول مع يمينه لثبوت يده قبل منازعته إلا أن يقيم الثاني بينة ، فيحكم أنه عبد للثاني ، لأن البينة أولى من اليد ، فإن أقام الأول بينة كان أحق به من الثاني ، لأن للأول بينة داخل ، وللثاني بينة خارج .

                                                                                                                                            ولو تنازعه في الحال رجلان ، ولم يكن لأحدهما عليه يد ، وأقام كل واحد منهما بينة بأنه عبده ، فصدق العبد أحدهما لم تترجح بينته بتصديقه ، وتعارضت فيه البينتان ، فيكون على الأقاويل الثلاثة .

                                                                                                                                            ولو تنازعه رجلان ، ولا بينة لأحدهما فصدق أحدهما في رقه ، وكذب الآخر ، وأنه مملوك له دون الآخر ، كان عبدا للمصدق منهما دون المكذب .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يكون عبدا لهما يشترك فيه المصدق ، والمكذب ، لأنه قد صار باعترافه بالرق لأحدهما مملوكا ، ولا اعتبار باعتراف المملوك وإنكاره .

                                                                                                                                            وهذا ليس بصحيح ، لأنه حر في الظاهر ، وإنما صار مملوكا باعترافه فاقتضى أن يكون مملوكا لمن اعترف به .

                                                                                                                                            ولو كان معترفا بالرق قبل اعترافه لأحدهما ، ثم صدق أحدهما وكذب الآخر كان بينهما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية