الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت جواز التغليظ في الأيمان بالمكان والزمان فهو مشروع ، وليس بمستبدع ، وهو عند أبي حنيفة مستبدع غير مشروع ، وعليه وقع الخلاف .

                                                                                                                                            والكلام في التغليظ يشتمل على فصلين :

                                                                                                                                            أحدهما : جنس ما تغلظ فيه الأيمان من الحقوق .

                                                                                                                                            والثاني : صفة التغليظ بمكانه وزمانه .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول : فيما تغلظ فيه الأيمان من الحقوق ، ففيه للفقهاء ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب طائفة من حكام الحجاز ، وابن جرير الطبري من أهل العراق :

                                                                                                                                            أنها تغلظ في كل قليل وكثير ، لأنه صفة لليمين ، كالبينة التي يستوي حكمها في كل قليل وكثير .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب مالك أنها تغلظ فيما يقطع فيه اليد ، ولا تغلظ فيما لا يقطع فيه ، لقول عائشة رضي الله عنها : " لم تكن اليد لتقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه " . تدل على أن ما تقطع فيه ليس بتافه ، فكان كثيرا .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب الشافعي ، أن ما خرج عن الأموال ، ولم يثبت إلا بشاهدين كالحدود والقصاص ، والنكاح ، والطلاق ، فالأيمان فيه مغلظة ، فيما قل منه أو كثر ، وما ثبت بالشاهد والمرأتين من الأموال ، فتغلظ الأيمان في كثيره دون قليله ، وكثيره عشرون دينارا : لحديث عبد الرحمن بن عوف ، حين مر بقوم يحلفون بين البيت والمقام ، فقال : أعلى دم ؟ قالوا : لا . قال : أفعلى عظيم من المال ؟ قالوا : لا . قال : لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام . فعقل السامعون لقوله من أهل العلم ، أنه أراد بالعظيم من المال عشرين مثقالا ، فصار هذا المقدار أصلا في تغليظ الأيمان .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا جعلتم هذا قدرا في التغليظ ، فهلا جعلتموه قدرا في الإقرار إذا أقر بمال عظيم أن لا يقبل منه أقل من عشرين دينارا ، وأنتم تقبلون منه ما قل وكثر ؟ قيل : لأنه في الإقرار متردد الاحتمال بين إرادة القدر ، وإرادة الصفة ، وفي التغليظ لا يحتمل إلا إرادة القدر ، فلذلك جعلناه قدرا في التغليظ ، لأنه لا يحتمل غيره .

                                                                                                                                            وإذا كان هكذا ، فقد اختلف أصحابنا في تقديره بالعشرين على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لأنها نصاب في الزكاة ، ليكون المقدار معتبرا بأصل مشروع ، فعلى [ ص: 111 ] هذا إن وجبت اليمين في الدراهم غلظت في مائتي درهم فصاعدا .

                                                                                                                                            وإن وجبت في الغنم غلظت في أربعين شاة فصاعدا .

                                                                                                                                            وإن وجبت في البقر غلظت في ثلاثين بقرة فصاعدا .

                                                                                                                                            وإن وجبت في الإبل غلظت في خمس من الإبل فصاعدا .

                                                                                                                                            وإن وجبت في الحبوب والثمار غلظت في خمسة أوسق فصاعدا .

                                                                                                                                            سواء بلغ قيمة ذلك عشرين دينارا أو لم يبلغ ، وإن وجبت في أقل من هذه النصب المزكاة لم يغلظ ، سواء بلغ قيمة ذلك عشرين دينارا أو لم تبلغ .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه قدر بالعشرين : لأنه أصل عن توقيف ، أو اجتهاد لا يعتبر بغيره ، فعلى هذا لا تغلظ في الدراهم والثمار والمواشي إلا أن تبلغ قيمتها عشرين دينارا ، فتغلظ ، وإن لم تبلغ نصابا ، وإن نقصت قيمتها عن العشرين ، لم تغلظ ، وإن بلغت نصابا . فأما الأموال التي لا زكاة في جنسها ، فيصير في تغليظ اليمين فيها أن تبلغ قيمتها عشرين دينارا من غالب دنانير البلد الخالصة من الغش .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية