الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا أحمد بن منيع ، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم أنبأنا ) وفي نسخة حدثنا وفي أخرى أخبرنا ( علي بن زيد ) أي ابن جدعان ( عن عمر هو ) أي عمر المذكور هو ( ابن أبي حرملة عن ابن عباس ، قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ) ضمير تأكيد تصحيحا للعطف بقوله : ( وخالد بن الوليد على ميمونة ) أي أم المؤمنين ( فجاءتنا بإناء من لبن ، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي من بعض ما فيه ( وأنا على يمينه ) أي مستعل مستول عليها لسبقي بها ( وخالد عن شماله ) أي متأخر متجاوز عنها لتأخره ، وهذا أظهر مما قال ابن حجر من أن مخالفته بعلى في حقه ، وبعن في خالد دلت على أنه كان أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من خالد ، وهو محتمل لصغره وقرابته ، فقدم جبرا لخاطره ، ويحتمل أن التخالف لمجرد التفنن في العبارة ، فهما بمعنى واحد ، وهو مجرد الحضور معه انتهى . وللطيبي كلام مبسوط بيناه في شرح المشكاة ، ( فقال لي ) بفتح الياء ويسكن ( الشربة لك ) أي لأنك صاحب اليمين ، وقد ورد : الأيمن فالأيمن .

رواه مالك وأحمد وأصحاب الستة عن أنس ، ويستفاد منه تقديم الأيمن ندبا ولو صغيرا مفضولا ; ولذا قال : ( فإن شئت آثرت بها خالدا ) أي مراعاة للأكبر أو الأفضل .

وفي نسبة المشيئة إليه تطييب لخاطره ، وتنبيه نبيه على أن الإيثار أولى له [ ص: 304 ] .

وأغرب ابن حجر حيث قال : نعم ، قد يشكل على ذلك قول أئمتنا يكره الإيثار بالقرب ، وقد يجاب بأن محل الكراهة ، حيث آثر من ليس أولى منه بذلك ، وإلا كما هنا ، وكتقديم غير الأفقه مثلا على الأفقه في الإمامة ، فلا كراهة انتهى .

ووجه الغرابة أنه إذا قدم من هو أولى منه في الإمامة وغيرها ، لا يسمى إيثارا ، وإنما الإيثار إذا كان متساويا مع غيره في الاستحقاق ، أو هو أولى من غيره في الاتفاق ، كما يدل عليه قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقد بسطنا هذا المبحث مع حديث أبي بكر رضي الله عنه ، والأعرابي في شرح المشكاة ( فقلت : ما كنت لأوثر ) بكسر اللام ونصب الفعل على أن اللام لتأكيد النفي ، كما في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم أي لا ينبغي لي ولا يستقيم مني أن أختار ( على سؤرك ) بضم فسكون همز ، ويبدل أي ما بقي منك ( أحدا ) أي غيري يفوز به ، وروي ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا ، وفي النهاية ومنه حديث الفضل بن عباس لا أوثر بسؤرك أحدا ، أي لا أتركه لأحد غيري ، انتهى .

ولعل القضية متعددة أو المراد من إطلاق ابن عباس هو الفضل لدليل آخر ، وإلا فابن عباس إذا أطلق فالمراد به الفرد الأكمل ، وهو عبد الله على قواعد المحدثين ، كما إذا أطلق عبد الله فالمراد به ابن مسعود ، وإذا أطلق الحسن فهو البصري ، وقال بعض الشراح : أي سؤر أحد على حذف مضاف ، وهو تقدير حسن ; لأنه يشعر بأنه منع الإيثار ; لأنه يحرم عن سؤره صلى الله عليه وسلم ويقع له سؤر غيره ; لأن من المعلوم أن خالدا ما كان يشرب سؤره كله ، مع إفادة أنه لو فرض فراغ اللبن بشرب خالد ، لكان الامتناع من الإيثار أولى للحرمان الكلي ، لكن غفل ابن عباس عن أن سؤره صلى [ ص: 305 ] الله عليه وسلم ، مع بقاء سؤر خالد أفضل ، فكان الإيثار موجبا للأكمل ، فإن سؤر المؤمن شفاء ; ولذا لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يشرب ماء زمزم ، فقال العباس للفضل : هات الشربة من البيت ، فإن ماء السقاية استعملته الأيادي ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنما أريد بركة أيدي المؤمنين ، أو ما هذا معناه ، وفي الجامع الصغير أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى المطاهر أي السقايات ، فيؤتى بالماء فيشربه ، ويرجو بركة أيدي المسلمين ، رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر ، وقد أطال ابن حجر الرد على قائل المضاف ، ونسب قوله إلى الركاكة وغيرهما ، مما يتعجب منه صاحب الإنصاف ، ( ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أطعمه الله طعاما فليقل ) أي ندبا بعد أكله والحمد عليه ، وأما قول ابن حجر ، فليقل حال الأكل ، فإن آخره إلى ما بعده ، فالأولى أن يكون بعد الحمد ، كما هو ظاهر فليس بظاهر ; لأن حال الأكل لا يقال أطعمنا خيرا منه ، أو زدنا منه كما هو ظاهر ( اللهم بارك لنا ) أي معشر المسلمين أو جماعة الآكلين ( فيه ) والظاهر أنه يأتي بهذا اللفظ ، وإن كان وحده رعاية للفظ الوارد وملاحظة لعموم الإخوان ، فإنه ورد : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ( وأطعمنا خيرا منه ) أي من الطعام الذي أكلناه ( ومن سقاه الله لبنا ) أي خالصا أو ممزوجا بماء وغيره ، ( فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ) أي من جنس اللبن الذي شربنا منه ، وفيه أنه لا خير في اللبن بالنسبة لكل أحد وأشار المصنف إلى دليله بقوله : ( قال ) أي ابن عباس ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس شيء يجزئ ) بهمزة في آخره من الإجزاء أي لا يغني ولا يكفي ، ولا يقوم شيء ( مكان الطعام والشراب ) أي مقامهما ( غير اللبن ) منصوب على الاستثناء ، ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل ، وأغرب من تردد من الشراح في أنه هل يلحق ما عدا اللبن من الأشربة به أو بالطعام ، ووجه غرابته ظاهر لا يخفى على من تأمل أدنى تأمل في المبنى والمعنى ، ( قال أبو عيسى ) أي المؤلف بعد رواية الحديثين في بعض ما يتعلق بهما ، فمن الحديث الأول قوله : ( هكذا ) أي مثل ما سبق في إيراد الإسناد ( روى سفيان بن عيينة هذا الحديث ) يعني الأول ( عن معمر عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ) أي متصلا كما ذكرنا يعني وله إسناد آخر ، وهو المعني بقوله : ( ورواه عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق وغير واحد ) أي وكثير من الرواة ( عن معمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ) أي بحذف الصحابي ، مع قطع النظر عن إسقاط عروة ، فإن الزهري أحد الفقهاء والمحدثين والعلماء الأعلام من التابعين ، سمع سهل بن سعد وأنس بن مالك ، وأبا الطفيل وغيره ، وروى عنه خلق كثير ; ولذا قال : ( ولم يذكروا ) أي ابن المبارك والأكثرون ( فيه ) أي في إسناد هذا الحديث ( عن عروة عن عائشة ، وهكذا روى يونس وغير واحد عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ) أي فيكون ابن عيينة منفردا من بين أقرانه في إسناده موصولا ، وهذا معنى قوله : ( قال أبو عيسى [ ص: 306 ] وإنما أسنده ابن عيينة من بين الناس ) أي بإسناد متصل فيكون حديثه غريبا إسنادا ، والغرابة لا تنافي الصحة ، والحسن كما هو مقرر في محله فحاصله أن سند الإرسال أصح من سند الاتصال ، كما صرح المصنف به في جامعه ، وقال : والصحيح ما روي عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، انتهى .

وهو لا يضر ، فإن مذهبنا ومذهب الجمهور أن المرسل حجة ، وكذلك عند الشافعي إذا اعتضد بمتصل ، وقد قال ابن حجر : بين هذا الحديث روي مسندا ومرسلا ، ولم يبين حكم ذلك لشهرته ، وهو أن الحكم للإسناد ، وإن كثرت رواة الإرسال ; لأن مع المسند زيادة علم ، قال المصنف : وهو حديث حسن ، انتهى . ( وميمونة ) أي المذكورة في الحديث الثاني ( بنت الحارث ) أي الهلالية العامرية ( زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ) يقال : إن اسمها كان برة ، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة ، كانت تحت معوذ بن عمرو الثقفي في الجاهلية ، ففارقها فتزوجها أبو درهم وتوفي عنها ، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضاء ، بسرف على عشرة أميال من مكة ، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي تزوجها وبنى بها فيه ، سنة إحدى وستين ، وصلى عليها ابن عباس ودفنت فيه ، وهو موضع بين التنعيم والوادي في طريق المدينة ، وبني على قبرها مسجد يزار ويتبرك به ، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس ، وأخت أسماء بنت عميس ، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم روى عنها جماعة منهم عبد الله بن عباس ، وقوله : ( هي خالة خالد بن الوليد ، وخالة ابن عباس ، وخالة يزيد بن الأصم ) بيان وجه دخولهما على ميمونة ، وزيد يزيد استطرادا ( واختلف الناس في رواية هذا الحديث ) أي الحديث الثاني ( عن علي بن زيد بن جدعان ) بضم الجيم وسكون الدال المهملة ، ( فروى بعضهم ) أي بعض المحدثين ( عن علي بن زيد عن عمر بن أبي حرملة ) كما سبق في الإسناد ( وروى شعبة ) أي من بين المحدثين ( عن علي بن زيد فقال ) أي فقال شعبة في إسناده بعد قوله : ( عن علي عن عمرو بن حرملة ، والصحيح عن عمر بن أبي حرملة ) أي الصحة في موضعين على ما ذكره البيهقي الأول عمر بلا واو ، الثاني أبي حرملة على الكنية لا بالاكتفاء على العلمية ، وإنما أعاد هذا البيان مع استفادته من إيراد إسناده ، لبيان المراد بالتصريح ، ولمقام الاختلاف بالتصحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية