الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمود بن غيلان أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( وكيع حدثنا مسعر ) بكسر فسكون ففتح ( عن أبي صخرة جامع بن شداد عن المغيرة بن عبد الله ، عن المغيرة بن شعبة قال : ضفت ) بكسر أوله ( مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ) قيل : معناه صرت ضيفا لرجل معه صلى الله عليه وسلم ، وقال زين العرب شارح المصابيح أي كنت ليلة ضيفه ، وزيف هذا القول بعضهم لأجل قوله : مع ، وقال الطيبي : أي نزلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ضيفين له ، وقال صاحب المغرب : ضاف القوم وتضيفهم نزل عليهم ضيفا ، وأضافوه وضيفوه أنزلوه ، قال ميرك : وقع في رواية أبي داود من طريق وكيع بهذا الإسناد بلفظ ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والظاهر منه أن المغيرة صار ضيفا للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب النهاية : ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته [ ص: 259 ] وأضفته إذا أنزلته وتضيفته إذا أنزلت به ، وتضيفني إذا أنزلني ، وقال صاحب القاموس : ضفته أضيفه ضيفا ، نزلت عليه ضيفا كتضيفته ، وفي الصحاح أضفت الرجل وضيفته إذا أنزلته لك ضيفا وقربته ، وضفت الرجل ضيافة ، إذا نزلت عليه ضيفا ، وكذا تضيفته انتهى .

والظاهر أن لفظة مع في رواية الترمذي مقحمة ، كما لا يخفى على المتأمل ، وبهذا يظهر أن الحق مع الشارح زين العرب ، وقد صرح صاحب المغني أن لمع عند الإضافة ثلاث معان ، الأول موضع الاجتماع ، الثاني زمانه ، الثالث مرادفه عند هذا ، وقد وقعت هذه الضيافة في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم ، كذا أفاده القاضي إسماعيل ، وقال العسقلاني : ويحتمل أنها كانت في بيت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وأما ما قاله بعضهم من أن المراد جعلته ضيفا لي حال كوني معه فغير صحيح ; لما قدمناه من معنى ضفت لغة ( فأتي بجنب مشوي ) قال ميرك : وفي رواية أبي داود فأمر بجنب مشوي ( ثم أخذ ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( الشفرة ) بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء ، وهي السكين العريض الذي امتهن بالعمل ، ويسمى الخادم شفرة ; لأنه يمتهن في الأعمال كما تمتهن هذه في قطع اللحم ، كذا في المغرب ( فحز ) بتشديد الزاي أي فقطع النبي صلى الله عليه وسلم ( لي ) أي لأجلي وهو متعلق بحز ( بها ) أي بالشفرة والباء للاستعانة ، كما في كتبت بالقلم ، فيكون الجار متعلقا بحز أيضا ( منه ) أي من ذلك الجنب المشوي ، وفي نسخة صحيحة فجعل أي طفق وشرع يحز لي ، وفي نسخة فجعل يحز ، فحز لي ، وأخرى فجعل يحز لي بها منه ، والحز القطع ، ومنه الحزة بالضم ، وهي القطعة من اللحم ، واعلم أنه قد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم احتز من كتف شاة ، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها ، ثم قام فصلى ولم يتوضأ ، فلا يعارضه ما رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطعوا اللحم بالسكين ، فإنه من صنيع الأعاجم ، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ ، وقالا : ليس هو بالقوي على أنه يجوز أن يكون احتزازه صلى الله عليه وسلم ناسخا لنهيه عن قطع اللحم بالسكين ، وأن يكون لبيان الجواز تنبيها ، على أن النهي للتنزيه لا للتحريم ، وقيل : معنى كونه من صنيع الأعاجم أي من دأبهم وعادتهم ، قال في الكشاف في قوله تعالى : لبئس ما كانوا يصنعون : كل فاعل لا يسمى صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب يعني لا تجعلوا القطع بالسكين دأبكم وعادتكم كالأعاجم ، بل إذا كان نضيجا فانهشوه ، فإن لم يكن نضيجا فحزوه بالسكين ، ويؤيده ما في البيهقي أن النهي عن قطع اللحم بالسكين في لحم قد تكامل نضجه ، أو على أن ذلك أطيب ; ولذا علله بقوله : فإنه أهنأ وأمرأ ، والهني اللذيذ الموافق للغرض ، والمريء من الاستمراء هو ذهاب ثقل الطعام ، ويؤيده ما أخرجه المصنف بلفظ انهشوا اللحم نهشا ، فإنه أهنأ وأمرأ ، وقال : لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم ، وعبد الكريم هذا ضعيف ، لكن له طريق آخر فهو حسن ، وغاية ما فيه أن النهش أولى ، أو هو محمول على ما مر ، أو على الصغير والاحتزاز على الكبير ; لشدة لحمه ، هذا وإنما حز للمغيرة تواضعا منه [ ص: 260 ] صلى الله عليه وسلم وإظهارا لمحبته له ، ليتألفه لقرب إسلامه ، وحملا لغيره على أنه وإن جلت مرتبته فلا يمنعه من صدور مثل ذلك لأصحابه بل لأصاغرهم ( قال ) أي المغيرة ( فجاء بلال ) وهو أبو عبد الرحمن ، كان يعذب في ذات الله ، فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه ، وأعتقه وهو أول من أسلم من الموالي ، شهد بدرا ، وما بعدها ومات بدمشق سنة ثمان عشرة ، وله ثلاث وستون سنة ، من غير عقب ، ودفن بباب الصغير ( يؤذنه ) بسكون الهمزة ، ويبدل واوا من الإيذان بمعنى الإعلام ، وفي نسخة بهمزة مفتوحة ، وقد يبدل وتشديد الذال من التأذين بمعناه ، لكن في النهاية أن المشدد مختص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة ، فعلى هذا قوله : ( بالصلاة ) يفيد التجريد ، ويقوي الرواية الأولى ( فألقى ) أي رمى النبي صلى الله عليه وسلم ( الشفرة فقال له ) أي لبلال ( تربت يداه ) بكسر الراء أي لصقتا بالتراب ، من شدة الافتقار دعاء بالعدم والفقر ، وقد يطلق ويراد به الزجر ، لا وقوع الأمر ، كأنه صلى الله عليه وسلم كره إيذانه بالصلاة ، وهو مشتغل بالعشاء ، والحال أن الوقت متسع ويحتمل أنه قال ذلك رعاية لحال الضيف ، وقيل : قيامه كان للمبادرة إلى الطاعة ، والمسارعة إلى الإجابة ، ومعنى تربت يداه ، لله دره ما أحلاه ( قال ) أي للمغيرة ( وكان شاربه ) أي شارب المغيرة ( قد وفى ) أي طال ، وفي نسخة وكان شاربه وفاء ( فقال ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( له ) أي للمغيرة ، وكان حقه أن يقول وشاربي وفاء أي تماما ، فقال لي فوضع مكان الضمير المتكلم الغائب ، إما تجريدا أو التفاتا ( أقصه ) بتقدير استفهام أو لمجرد إخبار ( لك ) أي لنفعك أو لأجل قربك مني ( على سواك ) أي يوضع السواك تحت الشارب ، ثم قصه ما فضل عن السواك ، ويحتمل أن يكون القص بالشفرة أو بالمقراض ( أو قصه ) بضم القاف والصاد وتفتح أي أنت ( على سواك ) والشك [ ص: 261 ] من المغيرة أو ممن دونه ، وفي نسخة بفتح القاف فهو عطف على قال ، أي قال كان شاربه ، وفي نسخة فقصه كذا قيل ، والظاهر أنه عطف على فقال ، أي فقال أقصه أو قصه على سواك ، ثم الواو في قوله قال ، وكان شاربه لمطلق الجمع ، فلا يرد أن هذا الفعل لا يلائم وقوعه بعد الإيذان ، ورمي الشفرة وغيره ، وهو أيضا يزيف ما اختاره بعض الشراح من أن الضمير في شاربه لبلال ، اللهم إلا أن يثبت كون بلال قبل الإيذان معهم في ذلك المجلس ، قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في شاربه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى قوله : أقصه لك أي لأجلك تتبرك به ، انتهى .

ويؤيد قول الأول ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا طويل الشارب ، فدعا بسواك وشفرة ، فوضع السواك تحت شاربه ، ثم حزه ، وقال ميرك : وقع في رواية أبي داود : " كان شاربي وفى فقصه لي على سواك " ، فعلى هذه الرواية تعيين الاحتمال الأول ، أن فاعل قال هو المغيرة بن شعبة ، ويحتمل أن يكون فاعل قال هو المغيرة بن عبد الله ، نقل كلام المغيرة بن شعبة بالمعنى ، فلا التفات إلى الالتفات ، تأمل يظهر لك أن ما اختاره ابن حجر وغيره من الشراح مخالف لما في نفس الأمر ، وإن كان يوافقه ظاهر العبارة ، فالعبرة بالمعنى ويحمل عليه المبني هذا ، وفيه دليل لما قاله النووي من أن السنة في قص الشارب أن لا يبالغ في إحفائه بل يقتصر على ما يظهر به حمرة الشفة ، وطرفها وهو المراد بإحفاء الشوارب في الأحاديث .

قال ابن حجر : واعلم أن الناس اختلفوا هل الأفضل حلق الشارب أو قصه ، قيل : الأفضل حلقه لحديث فيه ، وقيل : الأفضل القص ، وهو ما عليه الأكثرون ، بل رأي مالك تأديب الحالق ، وما مر عن النووي قيل : يخالفه قول الطحاوي عن المزني والربيع أنهما كانا يحفيانه ، ويوافقه قول أبي حنيفة وصاحبيه ، الإحفاء أفضل من التقصير ، وعن أحمد أنه كان يحفيه شديدا ، ورأى الغزالي وغيره أنه لا بأس بترك السبالين ، اتباعا لعمر وغيره ; ولأن ذلك لا يستر الفم ، ولا يبقى فيه غمر الطعام ، إذ لا يصل إليه ، وكره الزركشي إبقاءه لخبر صحيح ابن حبان ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس ، فقال : إنهم يوفرون سبالهم ، ويحلقون لحاهم ، فخالفوهم ، وكان يحز سباله كما يحز الشاة والبعير ، وفي خبر عند أحمد ، قصوا سبالكم ، ووفروا لحاكم ، وفي الجامع الصغير ، وفروا اللحى وخذوا من الشوارب ، وانتفوا الإبط ، وقصوا الأظافير ، رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ، وروى البيهقي عن أبي أمامة ، وفروا عثانينكم وقصوا سبالكم ، والعثنون اللحية ، وفي خبر ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور ، وكان إذا كثر شعره أي شعر عانته حلقه ، وصح لكن أعل بالإرسال أنه كان إذا طلا بدأ بعانته فطلاها بالنورة ، وسائر جسده ، وخبر أنه دخل حمام الجحفة موضوع باتفاق أهل المعرفة ، وإن زعم الدميري وغيره وروده ، وفي مرسل عند البيهقي كان صلى الله عليه وسلم يقلم أظافره ، ويقص شاربه يوم الجمعة ، قبل الخروج إلى الصلاة ، وروى النووي كالعبادي : " من أراد أن يأتيه الغنى على كره ، فليقلم أظفاره يوم الخميس " ، وفي الحديث الضعيف : " يا علي : قص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة [ ص: 262 ] قيل : ولم يثبت في قص الظفر يوم الخميس حديث ، بل كيف ما احتاج إليه ، ولم يثبت في كيفيته ، ولا في تعيين يوم له شيء ، وما يعزى من النظم في ذلك لعلي أو غيره باطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية