الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وللمشركين سدرة يعكفون عندها. العكوف: هو الإقامة على الشيء في المكان، ومنه قول إبراهيم الخليل - عليه السلام - ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون [ الأنبياء: 52]، وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركا بها، وتعظيما لها.

وينوطون بها أسلحتهم؛ أي: يعلقونها عليها للبركة.

وفي حديث عمر: وكان يناط بها السلاح، فسميت: ذات أنواط، وكانت تعبد من دون الله.

في هذا بيان أن عبادتهم لها هي التعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور عبدت الأشجار ونحوها.

[ ص: 235 ] فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط. قال ابن الأثير: سألوه أن يجعل لهم مثلها، فنهاهم عن ذلك.

«وأنواط»: جميع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط، ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله، فقصدوا التقرب به إليه سبحانه. وإلا فهم أجل قدرا من أن يقصدوا مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر»، وفي رواية: «سبحان الله».

المراد: تعظيمه تعالى وتنزيهه عن الشرك، بأي نوع كان، مما لا يجوز أن يطلب، أو يراد به إلا الله.

وكان النبي يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب؛ تعظيما لله، وتنزيها له سبحانه، إذا سمع من أحد ما لا يليق به تعالى؛ مما فيه هضم للربوبية، ونقص في الألوهية.

وهكذا ينبغي لكل من يوحد الله، ولا يشرك به شيئا، أن يكبر، أو يسبح عند سماع ما لا ينبغي أن يقال في الدين.

«إنها السنن» بضم السين -؛ أي: الطرق والمراد بها: تقليد من تقدمهم من أهل الشرك والضلال.

«قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف: 139 ].

شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل؛ لكونها حذو النعل بالنعل، بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يؤلهه ويعبده من دون الله، وإن اختلفت العبارتان، فالمعنى واحد.

وقد تقرر في محله أن تغيير الاسم لا يغير المسمى. ففيه: خوف الشرك.

وفيه: أن الإنسان قد يستحسن شيئا يظنه مقربا إلى الله تعالى، وهو مبعده من رحمته، ومدنيه من سخطه.

[ ص: 236 ] وإذا كان يقع مثل هذا الحال والقال في سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - فما ظنك بهذا الزمان الأخير الفاسد، الكثير الآفات؟.

ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمنة والعصور، من كثير من المسمين بالعلماء والعباد، والموالي، والأهالي، مع أرباب القبور، وغلوهم في تعظيمها، والخضوع لها، والعكوف بها، والبناء عليها، وإلباسها الثياب الفاخرة، وصرف جل الإكرام لها، بالحضور لديها في المواسم والأعراس ونحوها.

ويحسبون أنهم على شيء، وليسوا في الحقيقة على شيء إلا على الذنب الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى أبدا، والوزر الأعظم الذي هو الشرك الجلي، والكفر الواضح.

قال أبو شامة في كتاب «الباعث على إنكار البدع والحوادث»: ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاة والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك.

ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، والقضاء لحوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون، وأشجار وحوائط، وأحجار.

وفي «دمشق» من ذلك مواضع متعددة، كعونية الحمى، خارج باب تولى، والعمود المخلوق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب [ ص: 237 ] النصر، في قارعة الطريق، سهل الله قطعه واجتثاثه من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث ! انتهى.

وذكر العلامة «ابن القيم» رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال :

فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر (رأى العبادة) من دون الله تعالى؛ فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له. انتهى.

وسيأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا الباب.

وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار، والقبور والأحجار، من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها، هو الشرك.

ولا اغترار بفعل العوام، وقول الطغام، وعمل اللئام.

ولا استبعاد في كون الشرك بالله، يقع في هذه الأمة ؛ لأنه إذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا، أو طلبوه من النبي، حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل، وقال: إنكم قوم تجهلون [الأعراف: 138]، فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة، مع غلبة الجهل، وبعد العهد من آثار النبوة، وقرب الزمان بالساعة؟!.

بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا من فعله، واتخذوه قربة.

وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني، لا بالمباني، وبالمسميات، لا بالأسماء.

ولهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها: «ذات أنواط».

[ ص: 238 ] فالمشرك، وإن سمى شركه ما سماه، فإن ذلك هو الشرك، كمن يسمي دعاء الأموات، والتماس الحاجات منهم، والذبح لهم، والنذر، ونحو ذلك: تعظيما، ومحبة، وحسن اعتقاد. فهذا عين الإشراك بالله، ولا يغني تغيير الاسم شيئا.

أترى أن الخمر تصير حلالا بتسميتها بالكرم؟ أم يحل الربا بتسميته نفعا؟. وهذا الباب واسع جدا.

وكم من مسميات شركية وبدعية، أحدث لها أهلها أسماء حسنة، وألقابا صالحة، واستعملوها ظنا منهم أنه لا وزر عليهم فيه، وأن هذا التلميع ينجيهم من اعتراض الشرع، بل من عذاب الله!.

فما أحق هؤلاء بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق سائلي ذات أنواط: «إنكم قوم تجهلون» !!.

فنص عليهم بالجهل، وسجل عليهم بعدم العلم، ولا أقبح من الجهل ولا أظلم من الجاهل.

«لتركبن سنن من كان قبلكم» - بضم الباء والسين -؛ أي: طرقهم ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الإفراد. رواه الترمذي، وصححه.

التالي السابق


الخدمات العلمية