الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأخرج الترمذي عن أنس -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها». أي: في جميع مراداته وكل مقصوداته، كائنة ما كانت.

قال أبو علي الدقاق: من علامات المعرفة ألا تسأل حوائجك كلها قلت أو كثرت إلا من الله سبحانه. حكاه عنه في "اللمعات".

«حتى يسأل شسع نعله»؛ أي: شراكه. قال أهل العلم: "الشسع": أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. [ ص: 45 ] "والزمام": السير الذي يدخل فيه الشسع. قاله الطيبي. "إذا انقطع" زاد في رواية عن ثابت البناني مرسلا «حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعه إذا انقطع».

معنى هذا الحديث: ألا يرى أن الله شأنه كملوك الدنيا وسلاطينها، يصنعون الأمور العظام والأفعال المهام بأنفسهم، ويتركون صغار الأمور ومحقرات الأشياء على ملازميهم، ويحيلونها عليهم، فيحتاج الناس فيها إلى التجائهم، بل معاملة الله سبحانه وتعالى ليست كذلك؛ لأنه قادر مطلق، يصلح في آن واحد آلافا وألوفا من الأمور الكبائر والصغائر، لا دخل في سلطنته العالية لأحد ممن سواه.

فالحق سؤال الشيء الحقير والكبير منه تعالى، ولا يقدر أحد على أن يعطي شيئا لأحد، حقيرا كان أو جليلا، قليلا كان أو كثيرا. فمن ترك السؤال منه، وسأل غيره، فقد أتى الشرك بمجامع قلبه وقالبه؛ لأن الدعاء هو العبادة، وعبادة غير الله تعالى شرك.

فالسؤال من غيره من حيث هو أنه عبادة مختصة به تعالى شرك بلا شك وشبهة. ويدل لذلك حديث أنس عند الترمذي بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة». و"المخ" بالضم -: هو نقي العظم والدماغ، وشحمة العين، وخالص كل شيء. وهذا الأخير هو المراد في هذا الحديث.

قال في "اللمعات": إنما كان الدعاء كذلك؛ لأن حقيقة العبادة هو الخضوع والتذلل، وهو حاصل في الدعاء أشد الحصول. انتهى.

وفي حديث أبي هريرة يرفعه: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء». رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه.

[ ص: 46 ] وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء». رواه الترمذي واستغربه، ورواه أحمد عن معاذ بن جبل.

وفي حديث أبي مسعود يرفعه: «سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يسأل» رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» رواه الترمذي.

تأمل في هذا الحديث، وأدرك أن السؤال شيء إذا جاء به أحد إلى أحد وسأله يغضب عليه، ولا يقضي حاجته إلا نادرا. وهذا الله الكريم الوهاب، إذا لم يسأله عبده يغضب على عدم السؤال. فثبت أنه بين السؤالين والمسؤولين بون بين، وبعد باعد.

وهذا مقام غاية الحياء والندامة ألا يسأل من يغضب على عدم السؤال، بل يتركه، ويميل إلى سؤال من لا يقدر على العطاء والمنع، ولا يستطيع النفع والضر، بل يعبس ويسخط ويغضب على السائل، وينظر إليه بنظر الحقارة والذلة. ولكن الذين حرموا من فضيلة السؤال من الله، وسألوا غيره، ودعوه لقضاء حوائجهم، فما أحقهم بأن يصيروا أذلاء بالسؤال من غير الله، ويعدوا في المشركين - سبحانه- ولا يسألوا الله حتى يصيروا مخلصين له الدين، ويرحم عليهم أرحم الراحمين بإنجاح مرامهم، وإسعاف سؤالهم.

والأحاديث في باب الدعاء وذكر من يقبل دعاؤه ولا يقبل، وكيف يدعو، وما أدبه، وما العلامة لقبوله؟ كثيرة جدا لا يحصيها هذا المقام.

وأخرج الشيخان البخاري ومسلم -رضي الله عنهما- عن أبي هريرة -رضي الله [ ص: 47 ] عنه - قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء: 214]، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشا فاجتمعوا فعم وخص، فقال: «يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا -أي: خلصوا- أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها -أي: أصلكم في الدنيا بمقتضى القرابة- ولكن لا أغني عنكم من الله شيئا» رواه مسلم.

وفي المتفق عليه قال: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم -أي: خلصوها- بالإيمان بالله وحده لا شريك له من النار» بترك الإشراك به في العبادة والتصرف في الكائنات «لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا».

معنى هذا الحديث: أن قرابة الكرام تتوكل على حمايتهم، ويغترون بكرامتهم، وخوفهم يقل. فأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر عشيرته وذا قرباه، فجمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعم وخص حتى قال لبنته: «أنقذي نفسك من النار»؛ أي: من عذاب الله القهار الجبار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يشاركه في شيء من الأشياء مشارك.

وقال: إن أداء حق القرابة إنما يكون فيما هو في الاختيار، ويدخل تحت الاقتدار، فهذا مالي مبذول عليك، وسلي منه ما شئت، لا بخل لي فيه، ولكن معاملة الله تعالى في دار الآخرة معاملة أخرى، ليست بيدي، ولا تحت قدرتي، لا أقدر أن أحمي أحدا هناك، أو أكون وكيلا لك أو لغيرك. فعلى كل أحد أن يصلح معاملته التي تقع هناك، ويقي [نفسه] من النار بأي تدبير يمكن ويستطاع.

[ ص: 48 ] فهذا الحديث دل على عدم نفع قرابة أحد -كائنا من كان- لأحد -كائنا من كان- وأنها لا تنفع عنده سبحانه أصلا. فلا فائدة لأحد حتى يصلح طويته، ويصفي معاملته بالله الكريم. فمن زعم أنه من أولاد الأنبياء -عليهم السلام- أو من نسل الأولياء، أو من أعقاب الأئمة، أو من أخلاف الشهداء، أو من تلامذة الشيخ الفلاني، والكبير الفلاني: أنهم ينفعونه في النجاة من عذاب الله في اليوم الآخر، ويشفعون له في الخلاص من الحساب والكتاب والعقاب، وأنه يغفر له ذنبه، ويعفو عنه زلاته لوجاهة هؤلاء الكرام، وقرابتهم نسلا، أو صهرا، فهو مغرور جاهل عن مدارك الشرع، محروم من فقه الأحكام، بل هو مشرك بالله تعالى في التصاريف في العالم، التي هي مختصة به سبحانه، لا يشاركه فيها أحد من العالمين، صالحهم وطالحهم، إلا أن يشاء الله رب العالمين شفاعة أحد لأحد، فيشفع بعد وجدان الرضاء منه، والإذن منه تعالى، وذلك بيد الله، لا بيده، وقدرته. فأنى لنا التوكل على نفع القرابة بالأنبياء، والأولياء، والمشايخ، والشهداء؟!.

نعم لو أردنا أن يشفع الله لنا أحدا منهم، ويجعله شفيعا لنا، فلا بد من أن نتأهل لذلك، ونجيء بأعمال صالحات يرضاها الله تعالى، مع الخوف، والهيبة، والرجاء، وأمل العفو من الله وحده، خالصا مخلصا له الدين، ولا نشرك بعبادة ربنا شيئا مما يأتي به جماعة المشركين؛ لأن الإيمان بين الخوف والرجاء. [ ص: 49 ] وما أحسن الرجاء مع الخوف! وما أكمل التوبة مع صحة العزم والنية! وإصلاح القلب والقالب، مع رجاء قبولها من الله وحده!! فلعل الله يرحمنا ويرضى بشفاعة الشافعين فينا، بمنه وكرمه، اللهم غفرا.

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [آل عمران: 147] وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم [البقرة: 128].

[ ص: 50 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية