الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم بين أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان الخالص، الذي هو التوحيد، والعمل الصالح، الذي هو عدم الشرك.

وأنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا.

وأما الرحمة والمغفرة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يجوز أن يطلب إلا منه سبحانه.

وأن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد المفيد، وإخلاص العمل السديد له، بما شرعه، ورضيه لعباده أن يتقربوا به إليه.

فإذا كان لا ينفع عمه، وابنته، وعمته، وقرابته إلا بذلك، فمن ذلك الذي ينفعه مع عدم هذا الإيمان والعمل؟ بل غيره أولى بالحرمان عن هذا، وأحرى به.

وفي قصة عمه صلى الله عليه وسلم أبي طالب، والد علي - كرم الله وجهه - معتبر بالغ، وهو بلاغ معتبر، الذي أنزل الله تعالى في حقه: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص: 56].

[ ص: 281 ] وانظر هنا إلى الواقع من كثير من الناس، في العرب والعجم، من أهل البدو والحضر، من الالتجاء إلى الموتى في القبور، والأموات الذين لا يملكون الحياة لهم ولا النشور، والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، والقرابين والنذور، وما أشبه هذا، من العبادات والأمور، والحال أنهم عاجزون قاصرون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم.

فمن أين لهم أن ينفعوا دعاتهم، أو يدفعوا عن عابديهم ؟!

وبهذا تبين أنهم ليسوا على شيء، ولا شيء لهم، بل إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون . أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد.

ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدنيا والدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادا من دون الله، يحبونهم كحب الله، إشراكا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده ؛ كما قال تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116] الآية.

قال ابن القيم في هذه الآية: نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به، وهو محض التوحيد، فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة، لا اطلاع له عليهم، وأن الله - عز وجل - هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم، فقال: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد [المائدة: 117] وصفه سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة، وأعم. انتهى.

وفي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله، [من] توحيده الذي هو دينهم، اتفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه، إلا من آمن.

فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله [ ص: 282 ] وحده: إنه قد تلعثم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه: واتبع فيه رسله، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية، وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين؟.

والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرؤوا من كل مشرك، ويكفروا به، ويبغضوه، ويعادوه في ربهم ومعبودهم قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [الأنعام: 149] وقال تعالى : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير [سبإ: 23].

ومعنى «فزع» زال الفزع عنها. قاله ابن عباس، وابن عمر، والسلمي، والشعبي، والحسن، وغيرهم.

قال ابن جبير: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة، وإنما فزع عنهم غشية تصيبهم عند سماع كلام الله بالوحي. واختاره ابن جرير، وغيره.

قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه ؛ لصحة الأحاديث فيه والآثار.

وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قوله: حتى إذا فزع إنما في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل - عليه السلام - يأمره إليه به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك ؛ تعظيما وهيبة أنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون.

وله سبحانه العلو الكامل علو القدر، وعلو الذات من جميع الوجوه، كما قال ابن المبارك لما قيل له: بم تعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه، بائن من خلقه، تمسكا منه بالقرآن لقول الله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طه: 4] وهو في سبعة مواضع من الكتاب، ولهذه الآية ونحوها.

وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 283 ] قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض» وصفه سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه «فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر، أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا» فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.

المعنى: إذا تكلم الله في الأمر الذي يوحيه إلى جبريل - عليه السلام - بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن جرير، عن ابن مسعود: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان».

وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس، قال: «لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا».

و «الخضعان» - بفتحين -: من الخضوع، وفي رواية: بضم الأول وسكون الثاني، وهو مصدر بمعنى خاضعين.

«والصفوان»: الحجر الأملس.

[ ص: 284 ] «وينفذ» - بفتح الياء، وسكون النون، وضم الفاء، وبالذال المعجمة - والإشارة بذلك إلى القول، والضمير في «ينفذهم» للملائكة ؛ أي: ينفذ ذلك القول الملائكة ؛ أي: يخلص ذلك القول، ويمضي فيهم، حتى يفزعوا منه.

وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: «فلا ينزل على أهل السماء إلا صعقوا» .

وعند أبي داود وغيره مرفوعا: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل» الحديث.

والمراد بمسترق السمع: الشياطين؛ أي: هم يسمعون الكلمة التي قضاها الله، يركب بعضهم بعضا.

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة مرفوعا: «إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب - فتذكر ما قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان».

وصف سفيان بن عيينة ركوب بعضهم فوق بعض بالتحريف، والتبديد ؛ أي: التفريق بين الأصابع.

والمعنى: يسمع الفوقاني الكلمة، فيلقيها إلى آخر تحته، وهلم جرا إلى أن يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.

«والشهاب»: هو النجم الذي يرمى به ؛ أي: ربما أدرك الشهاب ذلك المسترق.

وهذا يدل على أن الرمي بالشهب كان قبل المبعث، كما روى أحمد في «المسند» عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه.

زاد في رواية: من الأنصار، قال: فرمي بنجم عظيم، فاستنار، قال: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟»، قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم، أو يموت عظيم، قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال: نعم، ولكن [ ص: 285 ] غلظ حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم «فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا - تبارك اسمه - إذا قضى أمرا، سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويخطف الجن السمع، فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه، فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه، ويزيدون» وزاد في رواية: وينقصون «فيكذب» ؛ أي: الكاهن أو الساحر «معها مائة كذبة» - بفتح الكاف وسكون الذال - «قال: فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟».


وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق، فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل، فيكون أقبل لباطلهم.

وفي هذا الحديث وما بعده وما في معناه، إثبات علو الله على خلقه، وعلى ما يليق بعظيم جلاله، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء الكلام، وكلامه مسموع يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة، سلفا عن خلف، وكابرا عن كابر، وأبا عن جد، خلافا للأشاعرة والجهمية، ونفاة المعتزلة.

فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومرادنا بإيراد هذا الحديث وما بعده في هذا المقام: بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله.

فإذا كان هذا حالهم مع الله، وهيبتهم منه وخشيتهم، فكيف يدعوهم أحد من دون الله؟

فإذا كانوا لا يدعون مع الله استقلالا، ولا واسطة بالشفاعة، فغيرهم ممن لا يقدر على شيء ؛ من الأموات، والأصنام، والأوثان، والعباد، والصلحاء، والطواغيت الطلحاء، وغيرهم - أولى بألا يدعى ولا يعبد.

ففي هذا: الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة، ولا يساويهم في صفة من صفاتهم.

[ ص: 286 ] وقد قال تعالى فيهم: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [الأنبياء: 26] إلى قوله: مشفقون ، فهذه حالهم وصفتهم، وليس لهم من الربوبية والإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له.

وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر - تكلم بالوحي - أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله - عز وجل -، فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل، قال الحق، وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل -» رواه ابن أبي حاتم بسنده، كما ذكره الحافظ ابن كثير في «تفسيره».

قال عكرمة: إذا قضى الله أمرا (تكلم تبارك وتعالى)، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدا.

ومعنى «أخذت رجفة» ؛ أي: ارتجفت، وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى.

وقوله: «رعدة» شك من الراوي، والراء منها مفتوحة.

وذكر خوف الله ظاهر في أن السماوات تخاف الله، بما يجعل الله فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها.

وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال سبحانه : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .

وقال تعالى: تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا [مريم: 90]. وقال: وإن منها لما يهبط من خشية الله [البقرة: 74].

[ ص: 287 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية