الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام [النحل: 119] معناه: لا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة.

قال مجاهد: أي: في البحيرة والسائبة.

وقيل: يعني قولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا [الأنعام: 139] من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي.

عن أبي نضرة، قال: قرأت هذه الآية في سورة «النحل»، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.

قلت: صدق - رحمه الله تعالى - فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما يقع كثيرا من مؤثري الرأي، المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم القرآن والحديث، الواقفين على الفروع التي اشتملت على آراء الرجال، وهي غير مستندة إلى كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ كالمقلدين للمذاهب. [ ص: 115 ] وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتياهم، ويمنعوا من وصف ألسنتهم الكذب، فإنهم المفتون بغير علم من الله آتاهم، ولا هدى ولا كتاب منير.

فهم يضلون ويضلون، وهم ومن يستفتيهم، كما قال القائل:


كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود، قال: عسى رجل يقول: إن الله أمركم بكذا، ونهاكم عن كذا. فيقول الله -عز وجل-: كذبت، أو يقول: إن الله حرم كذا، وأحل كذا، فيقول الله: كذبت.

لتفتروا [النحل: 116] هي لام العاقبة، لا لام الغرض. أي: فيعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه.

إن الذين يفترون على الله الكذب أي افتراء كان لا يفلحون بنوع من أنواع الفلاح، والفوز بالمطلوب، لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ بدليل ما بعده متاع قليل ولهم عذاب أليم يردون إليه في الآخرة.

قال بعض أهل العلم في معنى هذه الآية: يعني: لا تفتروا من جهتكم عليه -سبحانه- شيئا؛ بأن الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل، والفلاني ينبغي ألا يفعل. فإن تحليل شيء وتحريمه إنما هو شأن الله تعالى فقط، فمن وصف شيئا بالحلة، أو الحرمة، من تلقاء نفسه، فقد افترى على الله. ومن تخيل أن في فعل كذا وكذا من الأمر، يحصل المراد، وإلا يقع الخلل فيه، فهذا خيال منه مختل؛ لأنه لا يحصل المراد بالافتراء على الله تعالى أبدا.

فهذه الآية تدل على أن من يقول: إنه لا ينبغي أن يأكل الإنسان ورق التنبول في شهر الله المحرم، ولا يلبس الثوب الأحمر، ولا يأكل الرجال من صحن منسوب إلى حضرة «الخاتون»، ولا بد في طعام منذور لها من كذا، وكذا [ ص: 116 ] البقول والخضروات، وكذا المشي، والحنا، ولا تأكله أمة، ولا من نكحت زوجا آخر، ولا من هو من الأرذال والفجار، ولا يصح. زاد الشيخ عبد الحق: إلا من الحلواء، وأنه لا بد في صنعتها من احتياط لا يصيب منها من يستغل القليان.

ونذر الشاه بديع الدين المدار لا يكون إلا طعام فيه طحن وسكر، وسمن، وكذا ما ينذر لأبي علي القلندر، ويسمى: سهمني، ولأصحاب الكهف، ويسمى اللحم والخبز، وأنه لا بد من كذا وكذا رسوم في العرس، وكذا وكذا رسوم في الموت، ولا يجلس هو بعد الموت في مجلس الهناء ولا العزاء أصلا، ولا يصنع مخللا، ولا يلبس فلان ثوبا مصبوغا بالكتم، وفلان المنسوج المعصفر. فإن هذا كله كذب وافتراء على دين الله تعالى، وصاحبه مفتر كذاب، مأسور في مصيد الشرك، ومداخل في حكم الله الذي لا مجال لأحد أن يداخل فيه شارع شرعا جديدا من قبل نفسه وهواه، وعلى نفسها براقش تجني.

وقال تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [المائدة: 3] أي: رفع به الصوت لغيره سبحانه؛ كأن قال: هذا الشيء باسم اللات والعزى، أو باسم الشيخ الفلاني، والمزار الفلاني. فحرم الله كل شيء رفع به الصوت لا على اسمه سبحانه، حيوانا كان أو غيره. لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. إلى قوله: وما ذبح على النصب أي: ما قصد بذبحه النصب، ولم يذكر اسمها عند ذبحه، بل قصد تعظيمها فقط بذبحه.

[ ص: 117 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية