الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت: إنما حكم سبحانه بالشرك على من عبد الشفعاء، وأما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون شركا.

قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك لازم له، كما أن الشرك ملزم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى.

وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله، لا وجود له، وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم؛ فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك في عبادة الله، شاء أم أبى.

قال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص: 56] سبب نزول هذه الآية موت أبي طالب على ملة عبد المطلب ؛ كما في الحديث الآتي.

[ ص: 297 ] قال ابن كثير: يقول تعالى: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ؛ أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [البقرة: 272]وقال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف: 103]. والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول، فإن أمر ذلك إلى الله، وهو القادر عليه.

وأما الهداية المذكورة في قوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى: 52]، فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله تعالى، والدال على دينه وشرعه.

وفي «الصحيحين» عن ابن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، فقال له: «يا عم ! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله».

فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعاد، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فأنزل الله عز وجل: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [التوبة: 113] الآية وأنزل الله في أبي طالب: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء .


المراد بحضور الوفاة: حضور علاماتها ومقدماتها.

ويحتمل أن يكون ابن المسيب حضر مع الاثنين؛ فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضا مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارا فقتل أبو جهل على كفره، وأسلم الآخران.

ومعنى «قل: لا إله إلا الله»: أمره أن يقولها، لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله، وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها بعلم ويقين، فقد [ ص: 298 ] برئ من الشرك والمشركين، ودخل في الإسلام ؛ لأنهم كانوا يعلمون ما دلت عليه.

وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا الإسلام، أو الكفر، فلا يقولها إلا من ترك الشرك، وبرئ منه.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم، وهم يعرفون معناها، لكن لا يعتقدونه ؛ لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب.

فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال، دون الباطن.

وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجروا، ووادعهم بألا يخونوه، ولا يظاهروا عليه عدوا، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.

و «أحاج» من المحاجة، والمراد به: بيان الحجة.

وفيه دليل: على أن الأعمال بالخواتيم ؛ لأنه لو قالها في تلك الحالة، معتقدا ما دلت عليه، لنفعته، وقد ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين؛ كقول فرعون لموسى: فما بال القرون الأولى [طه: 51]، وكقولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف: 23].

وإنما أعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكلمة، وأعادا ؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها، لتبرأ من ملة عبد المطلب؛ فإن ملته هي الشرك بالله في الإلهية، وأما الربوبية، فقد أقروا بها لله ؛ كما مر مرارا.

وقد قال عبد المطلب لأبرهة: «أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك».

وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: «قل: لا إله إلا الله» استكبارا عن العمل بمدلولها، كما قال تعالى عن أمثالهما من أولئك المشركين: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [الصافات: 35]، فرد عليهم بقوله: بل جاء بالحق وصدق المرسلين [الصافات: 37]، ليبين سبحانه أن استكبارهم عن قول: لا إله إلا الله ؛ لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ؛ فإن [ ص: 299 ] دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك، دلالة تضمن، ودلالتها عليه، وعلى الإخلاص دلالة مطابقة.

ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ؛ ليبين لعباده: أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه.

فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل خلقه، من هداية القلوب، وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب، والخلاص من النار، ونحو ذلك، شيء، لكان أحق الناس بذلك، وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه، وينصره ويؤويه.

فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده، وإخلاص العمل له وتجريده.

والظاهر أن أبا طالب قال: «أنا»، فغيره الراوي استقباحا للفظ المذكور إلى قوله: فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب.

قال الحافظ ابن حجر: وهي من التصرفات الحسنة.

وفي هذا الحديث رد على من زعم إسلام أبي طالب، أو إسلام عبد المطلب وأسلافه، ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف (أي: إذا زاد على المشروع) بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» قال النووي: فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار، تطييبا لنفس أبي طالب.

وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.

قال ابن فارس: مات أبو طالب، ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة، وثمانية أشهر، وأحد عشر يوما.

وتوفيت خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.

[ ص: 300 ] والظاهر أن قوله سبحانه: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [التوبة: 113] خبر بمعنى النهي، ونازل في أبي طالب ؛ فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله: فأنزل بعد قوله: «لأستغفرن لك» يفيد ذلك.

وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسبابا أخر، فلا منافاة ؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد.

قال الحافظ بن حجر: أما نزول الآية الثانية، فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول الآية التي قبلها، ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره.

يوضح ذلك ما يأتي في التفسير: فأنزل الله بعد ذلك: ما كان للنبي إلخ.

ونزل في أبي طالب: إنك لا تهدي ، وكله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام.

ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم ؛ لأن مثل ذلك ما يعارض الصحيح. انتهى.

وفي الحديث: دليل على تحريم الاستغفار للمشركين، وموالاتهم، ومحبتهم ؛ لأنه إذا حرم الاستغفار لهم، فموالاتهم ومحبتهم أولى .

وفيه أيضا: رد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين: أنهم ينفعون ويضرون، فيسألونهم غفران الآثام، وكشف الكروب، وهداية القلوب وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة. وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك.

ويحتجون بقوله تعالى: لهم ما يشاءون عند ربهم [الشورى: 22] ويقول قائلهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم:


فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

[ ص: 301 ] وقال آخر:


ما كان يعرف ألواحا ولا قلما     وكان يعرف ما في اللوح والقلم

وقال آخر بالفارسية:


بقلم كرنرسيد انكشتش     بود لوح وقلم اندر مشتش

فإذا عرف الإنسان معنى هذه الآية، ومن نزلت فيه، تبين له بطلان قولهم، وفساد شركهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأقربهم من الله، وأعظمهم جاها عنده، ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياته، وعند موته، فلم يتيسر ذلك، ولم يقدر عليه، ثم استغفر له بعد موته، فلم يغفر له، بل نهاه الله - عز وجل - ففي هذا أعظم البيان، وأوضح البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا عطاء ولا منعا.

وأن الأمر كله بيد الله، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويكشف الضر عمن يشاء، ويصيب به من يشاء من عباده.

وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة، ومن علمه علم اللوح والقلم، وما كان وما يكون، وهو بكل شيء عليم.

لو كان عنده صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب، وغفران الذنوب، وتفريج الكروب شيء، لكان أحق الناس به، وأولاهم من قام معه أتم القيام، ونصره وأحاطه من بلوغه ثمان سنين، وإلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر، قال الله تعالى له صلى الله عليه وسلم: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله إلى قوله: يؤمنون .

وقال: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله [الأنعام: 50].

فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات والأحاديث وما أشبهها، والإيمان بهذه الأبيات الدالة على كون علم الغيب له صلى الله عليه وسلم وما ضاهاها ؟؟.

[ ص: 302 ] قاتل الله أعداء الإسلام وأحباء الشرك، كيف جاوزوا الحد في إطرائه، والغلو فيه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وظنوا أن هذا الكلام استشفاع به -عليه السلام -، وتوسل به في المقام، ولم يعلموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأحد من المشركين، وإذا شفع لأحد من المؤمنين، فلا يشفع إلا بعد إذن الله له.

والله سبحانه لا يأذن له صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إلا لمن ارتضى، ولا يعلم أحد من العباد أنه سبحانه هل يرتضيه أم لا؟ وهل يأذن فيه بالشفاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم أم لا؟.

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ وقد تقدم الكلام على مسألة الشفاعة في أوائل هذا الكتاب، وما يصح منها وما لا يصح، فراجعه، وبالله التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية