الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

والفلاسفة لا تختص بأمة، وإن كان الذين اعتنى الناس بحكاية مقالاتهم هم فلاسفة اليونان، وهم أمة لهم مملكة، وعلماؤهم فلاسفتهم.

ومن ملوكهم «الإسكندر المقدوني»، وهو ابن فلبس، وليس الإسكندر «ذا القرنين» الرجل الصالح الموحد، الذي قص الله نبأه في القرآن، وبينهما قرون كثيرة.

وأما هذا المقدوني، فكان مشركا يعبد الأصنام، هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين «المسيح» نيف وثلاثمائة سنة.

وكان «أرسطاطليس» وزيره، وهو الذي غزا دار ابن داراب ملك الفرس، وثل عرشه، وفرق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك.

وكان لليونانيين -في دولته- عز، وسطوة، بسبب وزيره «أرسطو».

ونشأ فيهم «سقراط» أحد تلامذة «فيثاغورس»، وكان من عبادهم ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام، وقابلهم بالحجج والبراهين على بطلان عبادتها، فثارت عليه العامة، فاضطر الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم.

وكذلك «أفلاطون» كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم، وكان تلميذ «سقراط».

ولما هلك «سقراط» قام مقامه، ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم، وعيب آلهتهم، فسكتوا عنه.

وانتهت نوبة الملاحدة إلى «ابن سينا»، وكان -كما أخبر عن نفسه- قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم.

[ ص: 436 ] فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ويتسترون بالتشيع والانتساب إلى أهل البيت، ويبطنون الإلحاد.

وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد.

وفي زمنهم ولخواصهم وضعت «رسائل إخوان الصفا».

ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك «الطوسي» وزير الملاحدة، شفا نفسه من أتباع الرسول، فعرضهم على السيف، فقتل الخليفة، والقضاة، والفقهاء، والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والسحرة، ونقل أوقاف المساجد إليهم، ونص في كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب؛ من العلم، والقدرة، ونحوهما، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين «ابن سينا» مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال: هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام.

ورام تغيير الصلاة، وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتعلم السحر في آخر الأمر.

والتعطيل كان متوارثا بين هؤلاء، من عهد فرعون، إلى أن بعث الله عبده ورسوله المسيح، فجدد لهم الدين، وبين ما علمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، فعادوه، وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله.

فرفعه الله إليه، وطهره عنهم، فأقام الله له أنصارا، واستقام أمرهم على السداد، نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التغيير، حتى لم يبق في أيدي النصارى منه شيء، حتى كانت لهم بجامع، يرومون بها الاجتماع على دين، فيفترقون على الاختلاف والتلاعن، والاعتقادات الباطلة.

وكان فيهم من دين المسيح بقايا؛ كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، إلا ما أحل لهم بنصها.

[ ص: 437 ] فآل الأمر -بعد ذلك- إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة.

وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس، فصلوا هم إلى المشرق.

ولم يعظم المسيح صليبا قط كما عظموه وعبدوه، ولم يصم صومهم هذا أبدا، ولا شرعه، بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية، وتلبسوا بالنجاسات، وكان المسيح في غاية الطهارة، وقصدوا بذلك مراغمة اليهود، وتقربوا إلى أهل الفلسفة وعباد الأصنام؛ بأن وافقوهم في بعض الأمر؛ ليستنصروا بهم على اليهود.

وحاصل عقيدتهم التي اتفق عليها أكثرهم، بأن جمعهم ملكهم قسطنطين ما يأتي ذكره.

وكان من أسباب ذلك الاجتماع: أن بطريق الإسكندرية منع أربوس من دخول الكنيسة، ولعنه، فخرج إلى قسطنطين مستعديا عليه، وتناظرا بين يديه.

فقال لأربوس: اشرح مقالتك، فقال: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن، فكان كلمة له، إلا أنه محدث، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله؛ إذ يقول: وهب لي سلطانا على السماء والأرض، فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك، ثم إن تلك الكلمة اتخذت بعد من مريم العذراء، ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا، فالمسيح الآن معنيان: كلمة، وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.

فقال بطريق الإسكندرية: فأيما أوجب علينا عندك: عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟.

قال أربوس: بل عبادة من خلقنا. قال: فعبادة الابن الذي خلقنا، وهو مخلوق، أوجب من عبادة الأب الذي [ ص: 438 ] ليس بمخلوق، بل يصير الأب الخالق كفرا، وعبادة الابن المخلوق إيمانا.

فاستحسن الملك والحاضرون قول البطريق ومن معه، وأمر الملك أن يلعنوا أربوس وأهل مقالته.

فلما انتصر البطريق، قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمع نشرح فيه الدين.

فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا، وكانوا مختلفي الآراء، متباينين في الأديان، فلما اجتمعوا، كثر اللغط.

فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي، وناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم.

فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة مجلسا خاصا، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه، وسيفه، وقضيبه، ودفعها إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم على المملكة، فاصنعوا ما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم.

فباركوه عليه، وقلدوه سيفه، وقالوا: أظهر دين النصرانية، وذب عنه.

ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها، فلا يكون عندهم نصراني من لم يقر بها، ولا يتم له قربان إلا بها، وهي هذه:

نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد «يسوع» ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وأولم، وأوجع، وقتل، وصلب، ودفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، روح محيية، وبمعمودية واحدة، لغفران الخطايا، وبجماعة [ ص: 439 ] واحدة قدسية، جابلنقية، وبقيامة أبداننا، والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.

وافترقوا على هذه العقيدة، وعلى لعن من خالفها.

ثم ذهب أربوس يدعو إلى مقالته، وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة، فجمع جمعا عظيما، وصاروا إلى بيت المقدس.

فلما اجتمعوا، قال أربوس: إن أولئك النفر تعدوا علي، وظلموني، وافقه كثير من الذين معه، فوثبوا عليه فضربوه حتى كاد أن يقتل.

ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول، اجتمع الوزراء، والقواد، إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقاله أربوس، فجمع الأساقفة، فاجتمع بقسطنطينية منهم مائة وخمسون، فنظروا في مقالة أربوس.

وكان من مقالته: إن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله.

فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى، غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته.

فإذا قلنا: إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق، وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حي، ومن جعله غير حي فقد كفر، ومن كفر وجب عليه اللعن.

فلعنوا بأجمعهم أربوس وأشياخه وأتباعه.

ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس.

وكان مذهبه: أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة ابنان: الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر إنسان الذي هو موجود من مريم، وأن [ ص: 440 ] هذا الإنسان الذي يقول: إنه المسيح، متوحد مع ابن الإله، وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة، ولكن على سبيل الكرامة، واتفاق الاسمين.

فبلغ ذلك «بتاركة» سائر البلاد، فاتفقوا على تخطئته، وجرت بينهم مراسلات في ذلك.

واجتمعوا، وأرسلوا إليه للمناظرة، فامتنع، فأوجبوا عليه اللعن، فلما لعنوه، غضب له «بترك إنطاكية» فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، وتقاتلوا، ووقع الحرب، ثم وقع الصلح، وأنفذوا لعن نسطورس ولم تزل مجامعهم تشتمل على مثل تلك الأقوال.

وإذا كان هذا حال المتقدمين مع قرب عهدهم بالمسيح، وكون الدولة لهم، فما ظنك بالمتأخرين منهم؟

وهذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل.

أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق، وجزءا منه، وإلها آخر معه.

الثاني: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم؛ حيث زعموا أنه -تعالى- نزل من العرش، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر، ثم خرج رضيعا صغيرا، حتى انتهى الحال إلى أن صفعته اليهود، وصلبوه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم.

فإن أصل معتقدهم أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح بسبب خطيئة آدم.

وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس، وسجنه في النار بذنب أبيه.

فلما أراد الله خلاصهم، تحيل على إبليس، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى ولد، وشب وصار رجلا.

[ ص: 441 ] فمكن أعداؤه اليهود من نفسه حتى صلبوه وقتلوه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه إلا من أنكر صلبه، أو شك فيه، وقال بأن الإله يجل عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذب، حتى يقر بذلك.

فعجزوا الرب، وعطلوه عن القدرة على تخليص الأنبياء، ونسبوا إليه الظلم بحبسهم بذنب أبيهم، ونسبوا إليه ما لا يليق بآحاد المخلوقين، فضلا عن الخلق جل وعز.

وهم يعظمون الصليب؛ لأنه صلب عليه، ولو كان لهم عقل لما كان الصليب حقيقا بذلك، بل -على تقدير زعمهم- يستحق التحريق والإهانة.

التالي السابق


الخدمات العلمية