الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2117 (15) باب

                                                                                              ما جاء في فسخ الحج في العمرة

                                                                                              وأن ذلك كان خاصا بهم

                                                                                              [ 1083 ] عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج في أشهر الحج ، وفي حرم الحج وليالي الحج ، حتى نزلنا بسرف ، فخرج إلى أصحابه فقال: من لم يكن معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا. فمنهم الآخذ بها ، والتارك لها ممن لم يكن معه هدي ، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فكان معه الهدي ، ومع رجال من أصحابه لهم قوة ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي ، فقال: ما يبكيك؟ قلت: سمعت كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة . قال: وما لك؟ قلت: لا أصلي ، قال: فلا يضرك فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها ، وإنما أنت من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن . قالت: فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هاهنا . قالت: فخرجنا فأهللت، ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة ، فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو في منزله من جوف الليل ، فقال: هل فرغت؟ قلت: نعم . فأذن في أصحابه بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت ، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة .

                                                                                              رواه البخاري (1560)، ومسلم (1211) (123) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (15) ومن باب: ما جاء في فسخ الحج في العمرة

                                                                                              قول عائشة -رضي الله عنها- : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج ، وفي حرم الحج ، وليالي الحج ) ; لم يختلف في أن أول أشهر الحج شوال ، واختلف [ ص: 312 ] في آخرها : فقال مالك : آخرها آخر ذي الحجة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر . وذهب عامة العلماء : إلى أن آخرها عاشر ذي الحجة ، وبه قال مالك أيضا . وروي عن ابن عباس وابن عمر مثله . وقال الشافعي : شهران وتسعة أيام من ذي الحجة . وروي عن مالك : آخر ذلك أيام التشريق .

                                                                                              وسبب الخلاف : هل يعتبر مسمى الأشهر - وهي ثلاثة - أو يعتبر الزمان الذي يفرغ فيه عمل الحج - وهو أيام التشريق - أو معظم أركان الحج - وهو يوم عرفة - أو يوم النحر ; وهو اليوم الذي يتأتى فيه إيقاع طواف الإفاضة . وأبعدها قول من قال : التاسع .

                                                                                              وفائدة هذا الخلاف تعلق الدم بمن أخر طواف الإفاضة عن الزمان الذي هو عنده آخر الأشهر . وبسط الفروع في كتب الفقه .

                                                                                              و ( حرم الحج ) : أزمان شهوره . و ( ليالي الحج ) : ليالي أيام شهوره. وكررت ذلك تفخيما وتعظيما ، ولذلك أتت بالظاهر مكان المضمر ، وصار هذا كقولهم :


                                                                                              لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

                                                                                              وقوله : ( فمن أحب أن يجعلها عمرة فليفعل ) ; ظاهره التخيير ، ولذلك كان منهم الآخذ ، ومنهم التارك . لكن بعد هذا ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - عزم على الأخذ بفسخ الحج في العمرة لما غضب ودخل على عائشة ، فقالت له : من أغضبك أغضبه الله . فقال : ( أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ) . وعند هذا أخذ في ذلك كل من أحرم بالحج ، ولم يكن ساق هديا، وقالوا : فحللنا ، وسمعنا ، وأطعنا .

                                                                                              [ ص: 313 ] وكان هذا التردد منهم : لأنهم ما كانوا يرون العمرة جائزة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور . فبين جواز ذلك لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله عند الإحرام بلفظ الإباحة ، ثم إنه لما رأى أكثر الناس قد أحرم بالحج مجتنبا للعمرة أمرهم بالتحلل بالعمرة عند قدومهم مكة ، تأنيسا لهم ، فلما رأى استمرارهم على ذلك عزم عليهم في ذلك ، فامتثلوا ، فتبين بقوله ، ويحملهم على ذلك الفعل : أن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج جائز ، ولما كان ذلك التحلل لذلك المعنى فهم الصحابة أن ذلك مخصوص بهم ، ولا يجوز لغيرهم ممن أحرم بالحج أن يحل بعمل العمرة ، ولقول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله كما قال عمر رضي الله عنه : إن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله . ولذلك قال أبو ذر : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة ; يعني بذلك : تمتعهم بتحللهم من حجهم بعمل العمرة . وقد ذهب بعض أهل الظاهر : إلى أن ذلك يجوز لآخر الدهر . والصحيح الأول ; لما سبق .

                                                                                              وقولها : ( فسمعت بالعمرة ) ; كذا لجمهور رواة مسلم . وفي كتاب ابن سعيد : (فمنعت العمرة) ، وهو الصواب .

                                                                                              وقوله : ( فعسى الله أن يرزقكيها ) ; أي : العمرة التي أردفت عليها الحجة ، ولم تفرغ من عملها ، فرجا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرز الله لها أجر عمرتها وإن لم تعمل لها عملا خاصا ، كما قال لها : (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) .

                                                                                              [ ص: 314 ] وقولها : ( حتى نزلت منى ، فتطهرت ) يوم النحر ، كما قالت فيما تقدم .

                                                                                              وقولها : ( فطفنا بالبيت ) ; تعني : طواف الإفاضة .

                                                                                              وقولها : ( فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة ) ; تعني به طواف الوداع .

                                                                                              ولا خلاف في أنه مستحب مرغب فيه مأمور به ، غير أن أبا حنيفة يوجبه . ومن سننه : أن يكون آخر عمل الحاج ، ويكون سفره بأثره ; حتى يكون آخر عهده بالبيت ; وهذا قول جمهور العلماء .

                                                                                              لكن رخص مالك في شراء بعض جهازه وطعامه بعد طوافه . وقاله الشافعي ; إذا اشترى ذلك في طريقه . وإقامة يوم وليلة بعده طول عند مالك . وقيل : ليس بطول . وأجاز أبو حنيفة إقامته بعده ما شاء . وغيرهم لا يجيز الإقامة بعده لا قليلا ولا كثيرا .




                                                                                              الخدمات العلمية