الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 71 ] وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء: 23]: أي أمر أمرا جزما، وحكم حكما قطعا، وقال قولا حتما مبرما، وهذا نهي عن عبادة غير الله. ففيه:وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره. وهذا هو الحق الذي جاءت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، ولا يوجد الشرك غالبا إلا في العبادات.

وقال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء: 110]، فيه الأمر بدعائه سبحانه، والدعاء هو العبادة، والعبادة لا تكون ولا تنبغي إلا له سبحانه وحده.

وقال تعالى: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه ، ولا تعبدوا غيره؛ فتكونوا من المشركين به هذا صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، ولا يضل سالكه، ومن عبد غيره سبحانه، فقد ضل عن سواء الطريق.

وقال تعالى: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [] من الأشياء، فلا يجلب لك نفعا، ولا يدفع عنك ضررا. نهى إبراهيم - عليه السلام- أباه آزر عن الشرك في العبادة، إلى قوله: يا أبت لا تعبد الشيطان [مريم: 44] أي: لا تطعه؛ فإن عبادة غير الله من الأصنام ونحوها، من طاعة الشيطان، وهو الشرك الواضح.

وقال تعالى: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي - وحده - عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا [مريم: 48] كما شقيتم بعبادة الأوثان، وصرتم مشركين بالرحمن.

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا [مريم: 88] قيل: هم مشركو قريش، وقيل: اليهود.

قال في «فتح البيان»: ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا. وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. [ ص: 72 ] سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون أي: المطيعون لربهم، فلا يخالفونه قولا ولا عملا، إلى قوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الأنبياء: 28] أن يشفع له، وهو من رضي عنه.

وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، يعني: الموحدين المخلصين له الدين وهم من خشيته مشفقون والخشية: الخوف مع التعظيم.

ومن يقل منهم أي: الملائكة: إني إله من دونه [الأنبياء: 29]. قال المفسرون: عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة: إني إله إلا إبليس، وذلك على سبيل التسامح والتجوز؛ إذ هو معترف بالعبودية، وآيس من رحمة الله، وكونه من الملائكة باعتبار أنه كان مغمورا ودخيلا فيهم. وقيل: الضمير للخلائق مطلقا، وقيل: الإشارة إلى جميع الأنبياء. والعموم أولى، وألصق بظاهر النظم القرآني؛ لأن العبرة به لا بخصوص الأسباب نجزيه جهنم أي: بسبب هذا القول الذي قاله كما نجزي غيره من المشركين المجرمين.

كذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. والمراد بالظلمة: المشركون في العبادة.

وقال تعالى في قصة نوح -عليه السلام -: وأهلك إلا من سبق عليه القول [المؤمنون: 27] أي: الوعد الأزلي بإهلاكه منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي: أشركوا في عبادة الله غيره، وهم كفار قومه عليه السلام إنهم مغرقون ؛ أي: مقضي عليهم بالإغراق؛ لظلمهم، وهو الشرك بالله تعالى في عبادته.

فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين [المؤمنون: 28] أي: المشركين.

وقال تعالى: ومن يدع مع الله إلها آخر [المؤمنون: 117] يعبده مع الله، أو يعبده وحده، ولا يعبد الله لا برهان له به أي: الحجة الواضحة، والدليل البين. [ ص: 73 ] فإنما حسابه عند ربه أي: فهو مجاز له بقدر ما يستحقه إنه لا يفلح الكافرون الذين كفروا بربهم، وأشركوا به بعبادة غيره - سبحانه وتعالى - وهذا نص في عدم غفران المشركين.

وقال تعالى: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة [النمل: 91] أي: مكة، خصها؛ لكون بيت الله الحرام فيها، ولكونها أحب البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: قل يا محمد: إنما أمرت أن أخصص الله بالعبادة وحده لا شريك له.

الذي حرمها وله كل شيء من الأشياء، خلقا، وملكا وتصرفا، وأمرت أن أكون من المسلمين الموحدين المنقادين لأمر الله تعالى، ونهيه بالطاعة واجتناب الطاغوت.

وقال تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون [العنكبوت: 26] نزلت الآية الشريفة في مسلمي أهل مكة. يقول الله: إن كنتم في ضيق فيها من إظهار التوحيد والإيمان فاخرجوا منها؛ لتتيسر لكم عبادتي وحدي، وتتسهل عليكم.

قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله وحده. وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك، أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله وحده حق عبادته، ولا يشرك به شيئا. وعلى الجملة: فالآية دليل على إخلاص العبادة لله، وعدم الشرك فيها.

وقال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم [يس: 60] العهد: الوصية، والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد هنا: ما كلفهم الله به على ألسنة الرسل من الأوامر والنواهي. [ ص: 74 ] ومن جملتها: أن لا تعبدوا الشيطان أي: لا تطيعوه في ترك عبادة الله وحده، وعبادة غيره.

وقيل: المراد بالعهد هنا: الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم -عليه السلام - وإنما عبر عن طاعة الشيطان بعبادته؛ لزيادة التحذير والتنقير عنها، ولوقوعها في مقابلة عبادة الله تعالى.

إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا [يس: 61] أي: عبادة الله وحده وتوحيده، أو دين الإسلام. صراط مستقيم أي: بليغ في الاستقامة، ولا صراط أقوم منه.

ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [يس: 62] أي: إن الشيطان قد أغوى خلقا كثيرا عن التوحيد، وعن عبادة الله وحده. أفلم تكونوا تعقلون عداوته لكم في إيقاعه إياكم في الشرك به سبحانه في العبادات.

وقال تعالى: إنهم أي: المشركين كانوا إذا قيل لهم : قولوا: لا إله إلا الله يستكبرون عن القبول؛ أي: لا يقبلون القول بعبادة الله وحده، بل كانوا يشركون به سبحانه غيره في العبادة والدعاء.

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله».

وعن ابن عباس، قال: كانوا إذا لم يشرك بالله، يستنكفون.

وهذا دليل على أن بعث الرسل كان لأجل توحيد العبادة، وترك الإشراك فيها، وأن المستكبر من ذلك، هو الذي يشرك ولا يوحد.

التالي السابق


الخدمات العلمية