الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حكم ما يذبح عند استقبال الملوك والسلاطين والرؤساء

وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله.

والحاصل: أن الذابح لغير الله ملعون، والذبيحة ذبيحة مرتد يحرم أكلها. وأما شرح بقية الحديث، فموضعه غير هذا الموضع.

وحاصله: أن ضام المحدث إليه، والحامي له ملعون.

و «المحدث» روي - بالكسر وبالفتح -، فعلى الأول معناه: نصر جانبه، وآواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه.

[ ص: 244 ] وعلى الثاني: هو الأمر المبدع نفسه، ومعناه الرضا به والصبر عليه. فإنه إذا رضي بالبدعة، وأقر فاعلها، ولم ينكر عليه، فقد آواه.

قال ابن القيم: هذه تختلف باختلاف مراتب الحدث بنفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر، كانت الكبيرة أعظم، انتهى.

وفي هذا من الوعيد على أهل البدعة وذم البدع ما لا يقدر قدره.

وتنكير «المحدث» يعم كل محدث من أي شخص كان، وفي أي مكان كان. وكذلك مغير المنار ملعون على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والمراد المنار بفتح الميم -: علامات حدودها ومعالمها، كذا في «النهاية».

والمراد بالمعالم: التي يهتدى بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل رجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما.

والظاهر: أنه عام لجميع الأرض، وقيل: خاصة بحدود الحرم، والأول أرجح.

والتخوم بفتح التاء جمعه: تخم - بضمتين -. والمعنى: أن يقدمها، أو يؤخرها.

فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين».

وفي هذا جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين. وأما لعن الفاسق المعين، ففيه قولان:

أحدهما: أنه جائز، اختاره ابن الجوزي وغيره.

والثاني: أنه لا يجوز، واختاره أبو بكر عبد العزيز، وشيخ الإسلام -رحمهما الله تعالى -وهو المتجه - إن شاء الله تعالى - جمعا بين الروايات.

[ ص: 245 ] وفي الحديث نعي لمن لعن أبويه -وإن عليا- بكونه ملعونا، وهذا الوعيد لا يبلغ مداه.

وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال «نعم: يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه».

وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب» ؛ أي: من أجله.

وطارق هو البجلي الأحمسي، قال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا.

قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح.

وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة ثلاث وثمانين.

قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ ! كأنهم تعجبوا منه، فسألوه عن هذا الأمر العجيب؛ لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالأعمال الصالحة، كما قال تعالى: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل: 32]، وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالأعمال السيئة، فكأنهم تقالوا معه ذلك واحتقروه.

فبين لهم صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما، يستحق عليه هذا الجنة، ويستحق الآخر عليه النار.

«قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا» الصنم: ما كان منحوتا على صورة.

والمعنى: لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يجعل له قربانا، وإن قل.

[ ص: 246 ] والظاهر: أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم عنهم كثيرا.

«فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء، قالوا له: قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار» ..

وفيه بيان عظم الشرك، ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار، كما قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [المائدة: 72].

ألا ترى إلى هذا، لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان، وأخسه - وهو الذباب - كان جزاؤه النار؟ لإشراكه في عبادة الله، إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة.

والحديث دل على الحذر من الوقوع في الشرك، وعلى أن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار.

وفيه: أن جزاء قليل الشرك كجزاء كثيره، وأن الله قد يؤاخذ عبده على شيء حقير قليل، لا يظنه سبب المؤاخذة عنده.

وفيه: أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم.

وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلما قبل ذلك، وإلا، فلو لم يكن مسلما، لم يقل: «دخل النار في ذباب».

وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.

«وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل - فضربوا عنقه، فدخل الجنة» رواه أحمد.

فيه: بيان فضيلة التوحيد والإخلاص.

وفيه: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر على القتل، ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر.

[ ص: 247 ] وهذا الحديث شاهد للحديث الصحيح الآخر: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».

التالي السابق


الخدمات العلمية