الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبه بالله تعالى.

وهذا هو التشبيه الذي أبطله الله وبعث رسله بإنكاره، والرد على أهله.

فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيره مثلا له، وندا له، لا أن يشبه هو بغيره؛ إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته.

وإنما المعروف في طوائف أهل الشرك الغلو فيمن يعظمونه بتشبيهه بالخالق، بل جعلوه هو الإله، وأنه هو المعبود الذي يرجى ويخاف، وكل مشرك فهو شبه لإله ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه من كل وجه.

حتى إن الذين وصفوه بالنقائص والعيوب؛ كقولهم: إن الله فقير، وإن يده مغلولة، وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم، والذين جعلوا له ولدا وصاحبة، لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا، ثم يشبهون به الخالق تعالى، بل وصفوا بهذه الأشياء استقلالا، لا قصد أن يكون غيره أصلا فيها هو مشبه به.

[ ص: 422 ] ولذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل؛ لكونها -في نفسها- نقائص وعيوبا.

ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل، فلا يتوقف في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه؛ كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل؛ حيث صرح بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب منه، وإنما ينفى عنه؛ لاستلزامها التشبيه والتمثيل.

وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله تعالى بهذه الصفات: نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه، بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا، لا يماثل فيها خلقه، كما يثبتون أن له علما، وقدرة، وحياة، وسمعا، وبصرا لا يماثل فيه خلقه.

فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء، ولم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاء لهم في المناظرة، فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ينفى ما ينفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه.

فقال أولئك: وهكذا نقول نحن.

ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة، استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية لا تفيد اليقين.

فليس عند القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب.

وأهل السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب له لذاته.

وهو أظهر في العقول والفطر، وجميع الكتب الإلهية من كل شيء.

[ ص: 423 ] ومن العجب أن هؤلاء جاؤوا إلى ما علم -بالاضطرار- أن الرسل جاؤوا به وصفوا الله به، ودلت عليه العقول والفطر، والبراهين، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه.

فلم يثبت لهم قدم البتة فيما يثبتونه له سبحانه، وينفونه عنه، وجاؤوا إلى ما علم بالاضطرار والفطر والعقول، وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس في أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه.

وليس في الخذلان فوق هذا، بل إثبات هذه العيوب والنقائص مضاد كماله المقدس، وهو سبحانه موصوف بما يضادها ويناقضها من كل وجه.

ونفيها أظهر وأبين للعقول من نفي التشبيه، فلا يجوز أن نثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه.

والمقصود: أنه لم يكن في الأمم من مثله بخلقه، وجعل المخلوق أصلا، ثم شبهه به، وإنما التمثيل والتشبيه في الأمم.

وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تعرف أمة من الأمم عليه، وبالغوا فيه حتى نفوا عنه صفات الكمال.

وهذا موضع مهم نافع جدا، يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه، وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه، وبين ما تنفيه «الجهمية» المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دل عليه.

والقرآن مملوء من إبطال أن يكون في المخلوقات من يشبه الرب، أو يماثله، فهذا هو الذي قصد بالقرآن؛ إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله غيره، قال تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [البقرة: 22]. وقال: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا [البقرة: 165].

33 [ ص: 424 ] فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخلق، فالند: الشبه، فلان ند فلان ونديده، أي: مثله وشبهه، ومنه قول حسان:


أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء

ومنه قول النبي لمن قال له: ما شاء الله وشئت: «أجعلتني له ندا؟».

قال جرير:


أأنتم تجعلون إلي ندا     وما أنتم لذي حسب نديد

وقد قال الله سبحانه وتعالى -: فلا تضربوا لله الأمثال [النحل: 74] فنهاهم أن يضربوا مثلا له من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه «هو» مثلا لخلقه، فإن هذا لم يقله أحد، فإن الله أجل وأعظم وأكبر في نظر الناس كلهم.

ولكن المشبهون المشركون يفعلون فيمن يعظمونه فيشبهونه بالخالق، والله تعالى أجل في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا، ثم يشبهونه بغيره.

فإن الذي يشبهه بغيره إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم؛ لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه وبينه نسبة في العظمة والجلالة، وعاقل لا يفعل هذا.

وإن قصد التنقص، شبهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين، ومن هذا قوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد ، ولم يقل: ولم يكن هو كفوا لأحد.

وكذلك قوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود، يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقصد به نفي صفات كماله وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما يرى الشمس والقمر في الصحو.

فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق رده على المشركين الذين اتخذوا من دونه [ ص: 425 ] وفي الحديث نعي لمن لعن أبويه -وإن عليا- بكونه ملعونا، وهذا الوعيد لا يبلغ مداه.

وفي الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال «نعم: يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه».

وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب»؛ أي: من أجله.

وطارق هو البجلي الأحمسي، قال أبو داود: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع منه شيئا.

قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح.

وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة ثلاث وثمانين.

قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! كأنهم تعجبوا منه، فسألوه عن هذا الأمر العجيب؛ لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالأعمال الصالحة كما قال تعالى: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل: 32] وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالأعمال السيئة، فكأنهم تقالوا معه ذلك واحتقروه.

فبين لهم صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما، يستحق عليه هذا الجنة، ويستحق الآخر عليه النار.

التالي السابق


الخدمات العلمية