الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التاسع : أن يتقرب بإراقة دم ، وإن لم يكن واجبا عليه ويجتهد أن يكون من سمين النعم ، ونفيسه وليأكل منه إن كان تطوعا ولا يأكل منه إن كان واجبا قيل في تفسير قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله إنه تحسينه وتسمينه .

وسوق الهدي من الميقات أفضل إن كان لا يجهده ولا يكده وليترك المكاس في شرائه فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن الهدي والأضحية والرقبة فإن أفضل ذلك أغلاه ثمنا وأنفسه عند أهله وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما أهدى بختية فطلبت منه بثلاثمائة دينار ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال : بل أهدها وذلك لأن القليل الجيد خير من الكثير الدون ، وفي ثلاثمائة دينار قيمة ثلاثين بدنة ، وفيها تكثير اللحم ولكن ليس المقصود اللحم إنما المقصود تزكية النفس ، وتطهيرها عن صفة البخل ، وتزيينها بجمال التعظيم لله عز وجل فـ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وذلك يحصل بمراعاة النفاسة في القيمة كثر العدد ، أو قل وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بر الحج ، فقال : العج والثج والعج : هو رفع الصوت بالتلبية ، والثج : هو نحر البدن .

وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما عمل آدمي يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من إهراقه دما وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها ، وإن الدم يقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسا وفي الخبر : لكم بكل صوفة من جلدها حسنة وكل ، قطرة من دمها حسنة وإنها ، لتوضع في الميزان فابشروا وقال صلى الله عليه وسلم استنجدوا هداياكم فإنها مطاياكم يوم القيامة .

العاشر : أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي ، وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك فإن ذلك من دلائل قبول حجه فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل الله عز وجل الدرهم بسبعمائة درهم بمثابة الشدائد في طريق الجهاد فله بكل أذى احتمله وخسران أصابه ثواب فلا يضيع منه شيء عند الله عز وجل .

ويقال : إن من علامة قبول الحج أيضا ترك ما كان عليه من المعاصي ، وأن يتبدل بإخوانه البطالين إخوانا صالحين ، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة .

التالي السابق


(التاسع: أن يتقرب بإراقة دم، وإن لم يكن واجبا عليه) بأن كان مفردا فإن كان قارنا من ميقاته ففيه إيجاب هدي يقربه، (ويستحب أن يكون) ما يتقرب به (من سمين النعم، ونفيسه وليأكل منه إن كان تطوعا ولا يأكل منه [ ص: 440 ] إن كان واجبا) مثل نسك قران أو متعة، أو كفارة (قيل في تفسيره قوله تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله ) فإنها من تقوى القلوب: (أي تحسينه وتسمينه) ، نقله صاحب القوت، (وسوق الهدي من الميقات أفضل إن كان لا يجهده ولا يكده) ، كذا في القوت .

وفي صحيح البخاري، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي من ذي الحليفة، (وليترك المكاس في شرائه) ، وهو نقص الثمن، (فقد كانوا يغالون في ثلاث) ، وفي القوت بثلاث، (ويكرهون المكاس فيهن الهدي والأضحية والرقبة) ، كذا في القوت .

ونقل المحب الطبري عن أبي الشعثاء أنه كان لا يماكس في الكراء إلى مكة، ولا في الرقبة يشتريها للعتق، ولا في الأضحية ولا يماكس في كل شيء يتقرب به إلى الله تعالى، وأخرج مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يقول لبنيه: يا بني لا يهدي أحدكم لله تعالى من البدن شيئا يستحي أن يهديها لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له.

(وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما أهدى نجيبة) من الإبل هكذا في النسخ، وفي بعضها: بختية بضم الموحدة، وسكون الخاء المعجمة، (فطلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال: بل أهدها) ، قال العراقي: رواه أبو داود وقال: انحرها اهـ .

قلت: ولفظ أبي داود عن ابن عمران: عمر أهدى بختية فأعطي ثلاثمائة دينار، فقال: يا رسول الله إني أهديت بختية فأعطيت بها ثلاثمائة دينارا فأبيعها واشترى بثمنها بدنا، قال: لا، انحرها إياها، ثم قال: وهذا لأنه كان أشعرها، قال المحب الطبري: وفيه حجة على أبي حنيفة حيث يقول: يجوز بيع الهدي المنذور وإبداله بغيره، وله أن يحمله على الأولوية اختيارا للهدي، والبختية أنثى البخت من الإبل معرب، وقيل: عربي، وهي إبل طوال الأعناق غلاظ كثيرة الشعر، والجمع بخاتي غير مصروف، ولك أن تخفف الياء، فتقول: البخاتي، قال صاحب القوت: فهذا سنة من تخير الهدي، وحسن الأدب في المعاملة، وترك الاستبدال إلا طلبا للكثرة، (وذلك لأن القليل الجيد خير من الكثير الدون، وفي ثلاثمائة دينار قيمة ثلاثين بدنة، وفيها تكثير اللحم) أيضا، (ولكن ليس المقصود) من ذلك (اللحم إنما المقصود تزكية النفس، وتطهيرها عن صفة البخل، وتزيينها بجمال التعظيم له عز وجل فـ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ، وذلك يحصل بمراعاة النفاسة (في القيمة قبل ذلك، أو أكثر) .

وقد سبق ذلك في كتاب أسرار الزكاة مفصلا، وأخرج سعيد بن منصور، عن نافع أن ابن عمر سار فيما بين مكة على ناقة بختية، فقال لها: بخ بخ فأعجبته فنزل عنها، وأشعرها، وأهداها (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بر الحج، فقال: العج والثج ) ، قال صاحب القوت: رواه ابن المنكدر عن جابر قال: (والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو نحر البدن) ، وقال العراقي: رواه الترمذي واستغربه وابن ماجه والحاكم وصححه، والبزار واللفظ له من حديث أبي بكر، وقال الباقون إن الحج أفضل اهـ .

وقال الحافظ في تخريج الرافعي: أفضل الحج العج والثج، رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي بكر - رضي الله عنه - واستغربه الترمذي، وحكى الدارقطني الاختلاف فيه، وقال: الأشبه بالصواب رواية من رواه عن الضحاك، عن عثمان، عن ابن المنكدر، عن عبد الرحمن بن يربوع، عن أبيه، عن أبي بكر فقد أخطأ، وقد قال الدارقطني: قال أهل النسب: من قال: سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع فقد وهم، وإنما هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، وفي الباب عن جابر أشار إليه الترمذي، ووصله أبو القاسم في الترغيب والترهيب، وإسناده في مسند أبي حنيفة من روايته عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب عنه، وهو عند ابن أبي شيبة، عن أسامة، عن أبي حنيفة، ومن طريق أبي أسامة أخرجه أبو يعلى في مسنده .

(وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل ابن آدم يوم النحر أفضل من إهراق دم) ، وفي نسخة من إهراقه دما، ورواية الترمذي: من إهراق الدم، (وإنها لتأتي) ، وفي نسخة تأتي بلا لام (يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسا) .

قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وضعفه ابن حبان، وقال البخاري: إنه مرسل، ووصله ابن [ ص: 441 ] خزيمة اهـ. قلت: إلا أن عند الترمذي: بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإهراق الدم إراقته، والهاء في هراق بدل من الهمزة في أراق، والحديث عام في الهدي والأضحية (وفي الخبر: لكم بكل صوفة من جلدها حسنة، وبكل قطرة من دمها حسنة، وأنها لتوضع في الميزان فأبشروا ) كذا في القوت .

وقال العراقي: رواه ابن ماجه والحاكم وصححه، والبيهقي من حديث زيد بن أرقم، ورواه أحمد في حديث فيه: بكل شعرة حسنة، قالوا: فالصوف، قال: بكل شعرة من الصوف حسنة، وفي رواية البيهقي بكل قطرة حسنة، وقال البخاري: لا يصح وروى أبو الشيخ في كتاب الضحايا من حديث علي: أما إنها يجاء بها يوم القيامة بلحومها ودمائها حتى توضع في ميزانك، يقوله لفاطمة رضي الله عنها: انتهى .

قلت: وفي المستدرك للحاكم، وصححه من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند كل قطرة تقطر من دمها، وقولي: إن صلاتي... الحديث، (العاشر: أن يكون) الحاج (طيب النفس) ، منشرح الصدر (بما أنفقه من نفقة، وقدمه من هدي، وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال وبدن إن أصابه ذلك فإنه من دلائل قبول حجه) ودليل نظر الله إليه في قصده (فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل الله الدرهم) الواحد (بسبعمائة درهم) ، وذلك لأن الحج أشبه شيء بالجهاد، وفي كل منهما الأجر على قدر النصب، ولذلك قال: (وذلك بمثابة الشدائد في طريق الجهاد) ، ذكره صاحب القوت (فله بكل أذى احتمله) ، أعم من أن يكون من الأوجاع والأمراض أو من الرفقاء والاتباع، (وخسران أصابه) أعم من أن يكون سرق له، أو أخذ منه قهرا، أو وقع منه (ثواب) عظيم، (ولا يضيع من ذلك عند الله شيء) ، بل يخلف الله عليه كل ما ذهب له من بدن أو مال (ويقال: إن من علامة قبول الحج أيضا ترك ما كان) العبد (عليه من المعاصي، وأن يستبدل بإخوانه البطالين) ، أي: عن الأعمال (إخوانا صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة) ، ونقله صاحب القوت وقال أيضا، وقيل في وصف الحج المبرور هو كف الأذى، واحتمال الأذى، وحسن الصحبة، وبذل الزاد، وذكر قولا ثالثا تقدم للمصنف إيراده قريبا، ثم فمن وفق للعمل بما ذكرناه فهو علامة قبول حجه، ودليل نظر الله إليه في قصده .




الخدمات العلمية