الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- فتح مصـر

أ - كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى عمرو، حين فرغ من الشام كلها، أن يسير إلى مصر بجنده [1] . وفي رواية: أن عمرو بن العاص، كان يحاصر قيسارية ، فاستخلف عليها ابنه ومضى إلى مصر، من تلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل من المسلمين، فغضب عمر بن الخطاب لذلك، وكتب إليه يوبخه ويعنفه على افتتانه عليه برأيه، وأمره بالرجوع إلى موضعه، إن وافاه كتابه، دون مصر، فورد الكتاب عليه، وهو بـ ( العريش ) [2] .. [ ص: 94 ]

وقيل أيضا: إن عمر بن الخطاب ، كتب إلى عمرو ، يأمره بالشخوص إلى مصر ، فوافاه كتابه، وهو محاصر قيسارية [3] ..

وفي رواية أن عمر بن الخطاب، أقام بإيلياء (بيت المقدس) بعدما صالح أهلها، ودخلها أياما، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمره عليها إن فتح الله عليه، فخرج عمرو بن العاص إلى مصر، بعد ما رجع عمر بن الخطاب إلى المدينة المنورة [4] .. وفي رواية: أن عمر بن الخطاب، حين قدم الجابية ، خلا به عمرو ابن العاص، فاستأذنه في المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل مصر في الجاهلية، وعرف طرقها، ورأى كثرة ما فيها [5] .، وقال: (يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أسير إلى مصر) ، وحرضه عليها، وقال له: (إنك إن فتحتها، كانت قوة للمسلمين، وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا، وأعجزها عن القتال والحرب) ، فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين، وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب، ويخبره بحالها، ويهون عليه فتحها، حتى ركن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلهم من ( عك ) ، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمسمائة [6] ؛ ثلثهم من غافق [7][ ص: 95 ] وثلثاهم من عك ، وغافق من عك أيضا، فهو غافق بن الشاهد بن علقمة بن عك [8] ..

وفي رواية : أن عمر بن الخطاب ، قال لعمرو ، بعد أن استأذنه، بالمسير إلى مصر : ( سر وأنا مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي سريعا، إن شاء الله، فإن أدركك كتابي، آمرك فيه بالانصراف عن مصر، قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها، فانصرف، وإن أنت دخلتها، قبل أن يأتيك كتابي، فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره) .. فسار عمرو في جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر الله، فكأنه تخوف على المسلمين في وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو، أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك الكتاب عمرا وهو بـ ( رفح ) ، فتخوف عمرو، إن هـو أخذ الكتاب، وفتحه، أن يجد فيه الانصراف، كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه، وسار حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش ، فسأل عنها فقيل: إنها من مصر، ودعا عمرو بالكتاب، فقرأه على المسلمين، فقال لمن معه: (ألستم تعلمون أن هـذه القرية من مصر؟) فوافقوه على أنها من مصر، فقال لهم: فإن أمير المؤمنين عهد إلي، وأمرني، إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر، أن أرجع، ولم يلحقني كتابه، حتى دخلنا مصر، فسيروا، وامضوا على بركة الله) [9] .. [ ص: 96 ]

وليس من المعقول، ولا من المنطق في شيء، أن يمضي عمرو لفتح مصر من تلقاء نفسه، وبدون استشارة عمر بن الخطاب ، وأخذ موافقته على هـذا الفتح، ولا أن يقدم عمرو، على المغامرة بفتح مصر ، خلافا لرغبة عمر بن الخطاب، وموافقته الكاملة الصريحة، وعمرو أعقل وأدهى، وأبعد نظرا، من أن يتحدى رغبات عمر بن الخطاب، ويخالفه، ويعصي أوامره، فيغضب عمر، ويكتب إليه موبخا معنفا، وعمر بن الخطاب، أقوى وأصلب من أن يفسح المجال لعامل من عماله، أن يخالف رغباته، ويتحدى أوامره، ويخرج عن طاعته، فلا بد أن عمرو بن العاص، أقنع عمر بن الخطاب، على فتح مصر، فكانت موافقة عمر بن الخطاب على فتح مصر، موافقة صريحة لا لبس فيها ولا غموض.

ولكن متى وأين أخذ عمرو موافقة عمر، على فتح مصر؟

كان مسير عمرو إلى مصر في سنة تسع عشرة الهجرية [10] ، وفتحت مصر سنة عشرين [11] ، وقيل سنة ست عشرة [12] .. وبالجملة، فينبغي أن يكون فتحها، قبل عام الرمادة ، لأن عمرو بن العاص، حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة [13] ، في عام الرمادة، الذي [ ص: 97 ] كان سنة ثماني عشرة الهجرية [14] ، أو سنة سبع عشرة [15] ، أي أن الفتح كان سنة ست عشرة الهجرية.

ولم يكن المسلمون، قد استكملوا فتح أرض الشام ، في تلك السنة، وقد كان عمرو بأرض الشام سنة ثماني عشرة الهجرية في طاعون (عمواس) [16] ، فلما مات أبو عبيدة بن الجراح ، استخلف على الناس معاذ بن جبل [17] ، فلما مات معاذ بالطاعون أيضا، استخلف على الناس عمرو بن العاص ، فخرج بالناس إلى الجبال، فلم يكره عمر ابن الخطاب ذلك من عمرو [18] .

وقد التقى عمرو بعمر بن الخطاب بـ ( الجابية ) ، فخلا عمرو بعمر، وفاتحه بفتح مصر [19] .. وعمر بن الخطاب قدم الجابية أربع مرات; الأولى: قبيل فتح بيت المقدس [20] ، والثانية: بعد فتح بيت المقدس [21] ، والثالثة: في أيام طاعون عمواس ، ولكنه عاد أدراجه إلى المدينة لانتشار الوباء في المنطقة، والرابعة: بعد الطاعون سنة ثماني عشرة الهجرية [22] [ ص: 98 ] ومعنى هـذا أن عمرو بن العاص ، كان في أرض الشام ، حتى نهاية سنة ثماني عشرة الهجرية [23] ، ويبدو أن عمرو بن العاص، سار إلى مصر سنة تسع عشرة الهجرية [24] ، ولكنه فتحها سنة عشرين الهجرية، وبذلك يمكن التوفيق، بين ما جاء في المصادر المعتمدة، عن تاريخ فتح مصر ، مع استبعاد ما جاء عن فتح مصر في تلك المصادر، قبل سنة تسع عشرة، لأن ذلك يناقض، ما جاء في أحداث التاريخ.

وقد استطاع عمرو، إقناع عمر بن الخطاب بفتح مصر، في لقاء الرجلين، سنة ثماني عشرة الهجرية بالجابية، وكان عمر بن الخطاب حريا بالاقتناع، حتى لا تكون أرض الشام، معرضة لخطر مهاجمتها من الروم شمالا من بلاد الروم، وجنوبا من مصر، على طريق سيناء البري، وغربا من بحر الروم ، وبخاصة أن أرطبون قائد الروم في فلسطين ، لحق بمصر قبيل استسلام بيت المقدس للمسلمين [25] ، ولا بد أن يكون مع أرطبون (أريطيون) الذي هـرب من بيت المقدس إلى مصر، جيش من جيوش الروم، وأنه كان يحشد جنود الروم، في مصر، لقتال المسلمين في حالة محاولة المسلمين فتح مصر، أو يحاول استعادة فلسطين، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فرأى عمرو بن العاص أن على المسلمين، [ ص: 99 ] ألا يضيعوا الوقت سدى، دون مسوغ، وأن يوقعوا بالأرطبون ، وقوات الروم ، قبل أن يستفحل أمرهم، وأيده عمر بن الخطاب ، المعروف بتفكيره الحصيف المتميز.

ومن المعروف، أن الذين يسيطرون على أرض الشام ، وكانت لديهم القوات الكافية للسيطرة على مصر ، فإنهم لا يترددون في الاستيلاء على مصر، وأحداث التاريخ القديم والحديث خير شاهد على ذلك.

وقد كان المسلمون حينذاك في أوج قوتهم، وقد فتحوا أرض الشام، فلا بد من فتح مصر، بعد استكمالهم فتح أرض الشام.

وتقدم عمرو ، على رأس جيشه، البالغ ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل [26] ، فلما بلغ المقوقس [27] قدوم عمرو إلى مصر، توجه إلى ( الفسطاط ) [28] ، فكان يجهز على عمرو الجيوش، وكان على القصر (يعني قصر الشمع الذي بمصر القديمة في القاهرة ) رجل من الروم يقال له: ( الأعيرج ) واليا عليه، وكان تحت يد المقوقس، واسمه جريج بن مينا (جورج) .. وأقبل عمرو، حتى إذا كان بالعريش ، فكان أول موضع قوتل فيه ( الفرما ) [29] قاتله الروم قتالا شديدا، نحوا من شهر، [ ص: 100 ] ولكنهم هـزموا، وكان عبد الله بن سعد [30] على ميمنة عمرو ، منذ خروجه من قيسارية ، إلى أن فرغ من حربه، ومضى عمرو لا يدافع إلا بالأمر الأخف، حتى نزل ( القواصر ) [31] ، فلم يجد هـناك مقاومة تذكر.. وتقدم عمرو، نحو مصر ، لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى ( بلبيس ) [32] ، فقاتله الروم بها نحوا من شهر، ففتحها عمرو، وانهزم الروم، ومضى عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى ( أم دنين ) [33] ، فقاتلوا من بها قتالا شديدا، ولكن الفتح أبطأ عليه، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يستمده، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف مع عمرو، فوصلوا إليه أرسالا، يتبع بعضهم بعضا، على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف، وهم الزبير بن العوام [34] ، والمقداد بن الأسود [35] ، وعبادة بن الصامت [36] ، ومسلمة بن مخلد [37] ، في قول، وقيل: خارجة بن حذافة [38] ، الرابع، لا يعدون مسلمة، وقال [ ص: 101 ] عمر بن الخطاب لعمرو : (اعلم أن معك اثني عشر ألفا، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة) [39] . وفي رواية أخرى، أن الزبير ورد على عمرو، في عشرة آلاف، ويقال في اثني عشر ألفا، فيهم خارجة بن حذافة العدوي ، وعمير بن وهب الجمحي [40] ، وكان الزبير، قد هـم بالغزو، وأراد إتيان ( أنطاكية ) [41] ، فقال له عمر: (يا أبا عبد الله! هـل لك في ولاية مصر ؟) ، فقال: (لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهدا، وللمسلمين معاونا، فإن وجدت عمرا قد فتحها، لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل، فرابطت به، وإن وجدته في جهاد كنت معه) ، فسار على ذلك [42] .

وحاصر المسلمون حصن بابليون [43] حصارا شديدا، وكان به جماعة من الروم ، وأكابر القبط ورؤسائهم، وعليهم المقوقس ، فقاتلوهم شهرا، فلما رأى القوم الجد في المسلمين على فتحه، ورأوا من صبرهم على القتال، ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس، [ ص: 102 ] وجماعة من أكابر الأقباط وخرجوا من باب القصر القبلي ، وتركوا به جماعة يقاتلون المسلمين، فلحقوا بالجزيرة [44] ، وأمروا بقطع الجسر، الذي هـو على نهر النيل ، وزعم أن الأعيرج (جورج قائد حرس الحصن، وقد بقي في الحصن حتى يقضي على ما يشاع من خروج قيرس) كان قد تخلف في الحصن، بعد المقوقس ، فلما خاف فتح الحصن، ركب هـو وأهل القوة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة [45] .

وبعث المقوقس إلى عمرو ، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم، ونتداعى نحن وهم، إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.. وبعث عمرو إلى المقوقس، عشرة نفر من المسلمين، أحدهم عبادة بن الصامت ، فلم تنجح المفاوضات بين الجانبين [46] ، ولم يبق غير القتال، لفتح حصن بابليون .

واستمر الحصار سبعة أشهر، فرأى الزبير بن العوام ، خللا في سور الحصن، فنصب سلما، وأسنده إلى الحصن، وقال: (إني أهب نفسي لله تعالى، فمن شاء أن يتبعني، فليفعل) ، فتبعه جماعة حتى أوفى على الحصن، فكبر وكبروا، فلما رأىالروم أن المسلمين قد ظفروا بالحصن، انسحبوا، ففتحت الفسطاط أبوابها للمسلمين [47] . [ ص: 103 ]

ولما فتح عمرو حصن بابليون -وكانت معركة فتح هـذا الحصن، من المعارك الإسلامية الحاسمة، في الفتح الإسلامي، فتحت أبواب مصر على مصراعيها للفاتحين المسلمين، كما فتحت معركة القادسية الحاسمة، أبواب العراق، ومعركة اليرموك الحاسمة، أبواب أرض الشام، ومعركة نهاوند الحاسمة (معركة فتح الفتوح) ، أبواب بلاد فارس، للفاتحين المسلمين- بدأ عمرو بمعارك استثمار الفوز، التي تعقب عادة كل معركة حاسمة، فوجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى (عين شمس) [48] ، فغلب على أرضها، وصالح أهل قراها، على مثل صلح الفسطاط.

كما وجه خارجة بن حذافة العدوي إلى (الفيوم) [49] ، و (الأشمونين) [50] ، و (إخميم) [51] ، و (البشرودات) [52] ، وقرى (الصعيد) [53] ، فصالحها أيضا، على مثل صلح الفسطاط. [ ص: 104 ]

كما وجه عمير بن وهب الجمحي إلى ( تنيس ) [54] ، و ( دمياط ) [55] ، و ( تونة ) [56] ، و ( دميرة ) [57] ، و ( شطا ) [58] ، و ( دقهلة ) [59] ، و ( بنا ) [60] ، و ( بوصير ) [61] ، فصالحها، على مثل صلح الفسطاط أيضا.

ووجه عقبة بن عامر الجهني ، ويقال مولاه وردان، مولى عمرو، إلى سائر قرى أسفل مصر ، ففعل مثل ذلك.. وبذلك استجمع عمرو ، فتح مصر ، فصارت أرضها، أرض خراج [62] .

ب - لما نزل عمرو على عين شمس ، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها، قال أهل مصر لمليكهم: ما تريد إلى قوم، فلوا كسرى، وقيصر، وغلبوهم في بلادهم! صالح القوم، واعتقد منهم، ولا تعرض لهم -وذلك في اليوم الرابع- فأبى، وناهدوهم [ ص: 105 ] وقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه، فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو، من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذوا عنوة، مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم:

" بسم الله الرحمن الرحيم: هـذا ما أعطى عمرو بن العاص ، أهل مصر ، من الأمان، على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبرهم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص [63] ، ولا يساكنهم النوب.. وعلى أهل مصر، أن يعطوا الجزية ، إذا اجتمعوا على هـذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألف، عليهم ما جنى لصوتهم [64] ، فإن أبى أحد منهم أن يجيب، رفع عنهم من الجراء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم عن غايته، إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك. ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب ، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، من أبى واختار الذهاب، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا، في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هـذا الكتاب، عهد الله وذمته، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة ، الذين استجابوا، أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، وعلى ألا يغزوا، ولا يمنعوا من تجارة، صادرة، ولا واردة) . " [ ص: 106 ]

شهد الزبير ، وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر [65] .

جـ - ولما فتح عمرو مصر ، أقام بها، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب ، يستأمره في الزحف إلى الإسكندرية ، فكتب إليه يأمره بذلك. وسار إليها من الفسطاط ، واستخلف على مصر خارجة بن حذافة العدوي ، وكان من دون الإسكندرية، من الروم والقبط ، قد تجمعوا له، وقالوا: نغزوه بالفسطاط، قبل أن يبلغنا، ويروم الإسكندرية) [66] .

وكان مع جيش عمرو، جماعة من رؤساء القبط، فأصلح القبط الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت القبط لجيش المسلمين أعوانا، على ما أرادوا، من قتال الروم، الذين استعدوا للقاء المسلمين، وقدمت عليهم مراكب كثيرة، من أرض الروم، فيها جمع من الروم عظيم، بالعدة والسلاح [67] .

ولم يلق عمرو من الروم أحدا في طريقه إلى الإسكندرية حتى ( ترنوط ) [68] ، حيث لقي بها طائفة من الروم، فقاتلوه قتالا خفيفا، ثم انهزموا باتجاه الإسكندرية [69] .

ويبدو أن عمرا ابتدأ زحفه نحو هـدفه الأصلي: الإسكندرية، على الضفة الغربية للنيل، من ناحيـة الصحراء، لأن فيها مجالا أوسع لخيله، لا يعوقها فيه [ ص: 107 ] ما يعترض أرض الدلتا، من الترع الكثيرة، وقنوات الري المزدحمة.

وعبر عمرو النيل إلى الغرب، ومضى بمن معه نحو الإسكندرية ، فأرسل شريك بن سمي [70] في آثار الروم المنهزمين، فلحقت طلائع المسلمين بالروم، عند موضع على ستة عشر ميلا إلى الشمال من ترنوط . واستطاع الروم أن يثبتوا للمسلمين، فأنفذ شريك رسولا إلى عمرو ، يطلب المدد، ولما بلغ الروم مجيء الأمداد، فروا هـاربين، وقد سمي هـذا الموضع باسم القائد ، وهو معروف حتى اليوم باسم: (كوم شريك) [71] قرية من قرى كوم حمادة ، وكوم حمادة مركز من أعمال محافظة البحيرة ، بمصر في الوقت الحاضر.

ثم التقى المسلمون بالروم وحلفائهم بـ ( سنـطيس ) [72] ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، فانهزم الروم. [ ص: 108 ]

والتقوا بـ ( الكريون ) [73] ، فاقتتلوا بضعة عشر يوما، وكان عبد الله ابن عمرو بن العاص [74] ، على المقدمة، وحامل اللواء يومئد وردان مولى عمرو ، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات، فصبر صبرا جميلا، وصلى عمرو يومئذ بجيش المسلمين، صلاة الخوف: بكل طائف ركعة وسجدتين، وتكبد الطرفان خسائر فادحة، وقتل المسلمون من الروم مقتلة عظيمة، وطارد المسلمون الروم، حتى بلغوا الإسكندرية [75] .

وكان للروم في الإسكندرية حصون مبنية لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين ( حلوة ) [76] إلى ( قصر فارس ) [77] إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط ، يمدونهم بما احتاجوا إليه، من الأطعمة، والعلوفة.

وبقي عمرو بحلوة شهرين، ثم تحول إلى ( المقس ) [78] ، وتصور [ ص: 109 ] هذه الرواية، رغبة عمرو في القفول إلى حصن بابليون ، ليعلم أهل الدلتا بقربه، ويشعرهم شوكته، بعد أن عز عليه اقتحام أسوار الإسكندرية ، فترك حولها جيشا كافيا لحصار الإسكندرية.

وأخرج الروم ، على قوات المسلمين، التي تحاصر الإسكندرية، الخيل من ناحية البحيرة ، مستترة بالحصن فاشتبكوا بالمسلمين، وقتلوا منها اثني عشر رجلا.

وكانت رسل ملك الروم، تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم، وكان ملك الروم يقول: (لئن ظهرت العرب على الإسكندرية، إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم، لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية) . ولما فتح المسلمون أرض الشام ، قال الملك: (لئن غلبونا على الإسكندرية، لقد هـلكت الروم وانقطع ملكها) ، وأمر بجهازه ومصلحته للخروج إلى الإسكندرية، حتى يباشر قتالها بنفسه، إعظاما لها، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: (ما بقاء الروم بعد الإسكندرية، فلما فرغ من جهازه، مات سنة عشرين الهجرية [79] ، وفيها فتحت قيسارية الشام [80] .

وأقام عمرو محاصرا الإسكندرية أشهرا، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب ، قال: (ما أبطأوا في فتحها، إلا لـما أحدثوا) . [ ص: 110 ]

" ولـما أبطأ على عمر بن الخطاب فتح مصـر ، كتب إلى عمرو بن العاص :

(أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم في فتح مصـر! إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لـما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم.. وقد كنت وجهت إليك أربعة نفـر [81] ، وأعلمتـك أن الرجـل منهم مقام ألف رجـل، على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هـذا، فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الـجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوه " [82] .

ولما أتى عمرا كتاب عمر، جمع الناس، وقرأ عليهم كتاب عمر، ثم دعا أولئك النفر، فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ، ويسألوه النصر [83] .

وأرسل المقوقس إلى عمرو، يسأله الصلح والمهادنة إلى مدة، فأبى عمرو ذلك. [ ص: 111 ]

وأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة ، مقبلات بوجوههن إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك، فأرسل إليه عمرو : (إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد لقينا هـرقل ملككم، فكان من أمره ما كان) . فقال المقوقس لأصحابه: (قد صدق هـؤلاء القوم! أخرجوا ملكنا من دار مملكته، حتى أدخلوه القسطنطينية ، فنحن أولى بالإذعان) . فأغلظ له أصحابه القول، وأبوا إلا القتال، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا، وحصروهم ثلاثة أشهر [84] ، ففتحها عمرو بالسيف، واستخلف عمرو على الإسكندرية ، عبد الله بن حذافة السهمي ، في رابطة من المسلمين، وانصرف إلى الفسطاط [85] .

وكان فتح الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية [86] ، وفي رواية أنها فتحت سنة عشرين الهجرية [87] ، وفي رواية أنها فتحت سنة خمس وعشرين الهجرية [88] .

وأرجح الرواية الأولى; أي أن الإسكندرية فتحت سنة إحدى وعشرين الهجرية [89] ، لأن عمرو بن العاص، فتح مصر عدا الإسكندرية [ ص: 112 ] سنة عشرين الهجرية، فقد فتح في هـذه السنة بعض مصر [90] ، لا كلها، ومن المعروف أن الإسكندرية ، كانت آخر أصقاع مصر فتحا، فلم يستطع عمرو إكمال فتح مصر كلها سنة عشرين الهجرية، فأتم فتحها سنة إحدى وعشرين الهجرية.

أما الذين ذكروا أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين الهجرية، فقد خلطوا بين فتحها الأول سنة إحدى وعشرين الهجرية، واستعادة فتحها، بعد انتقاضها سنة خمس وعشرين الهجرية، فقد انتقض أهل الإسكندرية، سنة خمس وعشرين الهجرية، فاستعاد عمرو فتحها، في هـذه السنة [91] أيضا، كما سيرد ذلك وشيكا. وفي رواية أن عبادة بن الصامت ، هـو الذي فتح الإسكندرية [92] .

د - ولما فتح عمرو الإسكندرية بالسيف، غنم ما فيها، واستبقى أهلها، ولم يقتل، ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل الفسطاط ، وكتب إلى عمر بن الخطاب بالفتح، مع معاوية بن حديج الكندي ثم السكوني [93] ، وبعث إليه معه بالخمس. ويقال: إن المقوقس صالح عمرا، على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج، ويقيم بها من أحب المقام، وعلى أن يفرض على كل [ ص: 113 ] حالم من القبط دينارين، فكتب عمرو لهم بذلك كتابا.

واستخلف عمرو على الإسكندرية عبد الله بن حذافة في رابطة من المسلمين، وانصرف إلى الفسطاط [94] .

وكان الروم قد عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية، وظنوا أنهـم لا يمكنهم المقام ببلادهم، بعد خروج الإسكندرية من ملكهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم، ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك [95] .

كما أن الروم، الذين بقوا في الإسكندرية، كتبوا إلى قسطنطين بن هـرقل ، الذي كان ملك الروم في القسطنطينية يومئذ، يخبرونه بقلة من عندهم من المسلمين، وبما هـم فيه من الذلة، وأداء الجزية ، فبعث رجلا من أصحابه يقال له: منويل في ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة، فدخل الإسكندرية، وقتل من فيها من روابط المسلمين، إلا من تملص منهم، فنجا من القتل، وكان ذلك سنة خمس وعشرين الهجرية.

وبلغ عمرو بن العاص الخبر، فسار إليهم في خمسة عشر ألفا، فوجد مقاتلي الروم قد خرجوا، يعيثون فيما يلي الإسكندرية، من قرى مصر، فلقيهم المسلمون، ورشقوهم بالنشاب ساعة، والمسلمون متترسون، ثم هـاجموهم بعنف، فالتحمت بينهم الحرب، واقتتلوا قتالا شديدا، [ ص: 114 ] وانهزم الروم ، ولم يتوقفوا في هـزيمتهم إلا في الإسكندرية ، فتحصنوا بها، ونصبوا العرادات [96] ، فقاتلهم عمرو على الإسكندرية أشد قتال، ونصب المجانيق فحطمت جدرها، وألح عمرو بالحرب، حتى دخل الإسكندرية بالحرب عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب بعض سكانها من الروم، إلى بلاد الروم، وقتل منويل قائد الروم، وهدم عمرو والمسلمون جدار الإسكندرية، وكان عمرو نذر، لئن فتحها، ليفعلن ذلك [97] .

ولم يوافق المقوقس أهل الإسكندرية في انتقاضهم، فأقره عمرو بعد استعادة فتح الإسكندرية ، على أمره الأول [98] .

وكان الروم، لما خرجوا من الإسكندرية، إلى القرى التي حولها، قد أخذوا أموال أهل تلك القرى، من وافقهم، ومن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون، جاء أهل القرى، الذين خالفوا الذين انتقضوا من الروم، وبقوا على ولائهم للمسلمين، فقالوا لعمرو بن العاص: (إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنـا، ولم نخـالف نحن عليكم، وكنا على الطاعـة) ، فـرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة [99] . [ ص: 115 ]

لقد كان أهل مصر الأصليين مع المسلمين على الروم ، وكما قال المقوقس لعمرو : (... وأن لا تنقض بالقبط ، فإن النقض لم يأت من قبلهم) [100] .. (وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأنا متمم لك على نفسي، والقبط متممون لك الصلح، الذي صالحتهم عليه، وعاهدتهم، وأما الروم، فأنا منهم بريء...) [101] ، وصارت القبط للمسلمين أعوانا [102] على الروم.

ه - ومهما قيل في تعداد جيش المسلمين الذي فتح مصر، فبدأ بأربعة آلاف رجل، أو ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وانتهى بعد وصول المدد من المدينة المنورة ، بقيادة الزبير بن العوام ، بثمانية آلاف، فيما إذا صح أن تعداد المدد أربعة آلاف رجل، وخمسة عشر ألفا، فيما إذا صح أن تعداد المدد اثنا عشر ألفا، فإن تعداد هـذا الجيش الفاتح كان قليلا للغاية، بالنسبة لتحقق هـدف العمليات، وهو فتح مصر ، وبالنسبة لتعداد المقاتلين من الروم، ومن أهل مصر، الذين نهضوا بمهمة الدفاع عن مصر، فقد ورد بكتاب ملك الروم الموجه إلى المقوقس: (إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبوا أداء [ ص: 116 ] الجزية إلى العرب، واختاروهم علينا، فإن عندك بمصر من الروم بالإسكندرية ، ومن معك، أكثر من مائة ألف، معهم العدة، والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم، على ما قد رأيت...) [103] .

والادعاء بأن فتح مصر كان نزهة ترفيهية للفاتحين، بحجة أن الأقباط كانوا للمسلمين عونا على الروم بصورة مطلقة، وأن الروم لم يقاتلوا كما ينبغي، ادعاء متهافت، يدل على الجهل المطبق، أو على التحيز والتعصب المقيت، فقد قاوم الروم وأهل البلاد المصريون، الفاتحين مقاومة شديدة، وأعانتهم طبيعة بعض المواقع، كحصن بابليون وأسوار الإسكندرية ، على تلك المقاومة، وقد خندقوا خندقا حول حصن بابليون، وجعلوا له أبوابا، وبثوا أفنيتها حسك الحديد [104] ، وثبتوا في كثير من مواضعهم الدفاعية، ثباتا عنيدا، امتد أياما، وأسابيع، وأشهرا، وأكمل المسلمون فتح مصر خلال سنتين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على ثبات المدافعين، واستقتال الفاتحين.

لقد كان المدافعون عن مصر، متفوقين على المسلمين الفاتحين، تفوقا ساحقا، بالعدد والعدد، وكانوا يقاتلون دفاعا عن بلادهم وعقيدتهم، وكانوا أكثر خبرة بفنون القتال التعبوية، من أولئك [ ص: 117 ] القادمين من الصحراء، وكانت قواعدهم قريبة منهم، وقواعد المسلمين بعيدة عنهم، وكانوا أغنى من المسلمين في المواد التموينية وأوفر حظا، وكانت مزية اختيار المواضع القتالية بأيديهم، وهذه المواضع المناسبة، تساعدهم على الدفاع عنها، وتعرقل مهمة الهجوم عليها، وكانت طرق المواصلات البرية والبحرية، مفتوحة للمدافعين عن مصر ، فكانت تردهم الإمدادات بالمراكب، من قواعد الروم المتقدمة والرئيسة، في بلاد الروم الأصلية، ولم تكن المواصلات البحرية مفتوحة، ولا متيسرة للمسلمين، بأي شكل من الأشكال.

كل هـذه المزايا القتالية كانت إلى جانب المدافعين عن مصر، ولكن المسلمين الفاتحين، أحرزوا النصر المؤزر، بالإقدام والتضحية والفداء، وبالشهداء.

لقد كان المسلمون متفوقين على المدافعين عن مصر بالمعنويات العالية، فكان أحد هـؤلاء المدافعين، يتمنى أن يموت صاحبه قبله، وكان أحد الفاتحين يتمنى أن يموت قبل صاحبه، فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة; بالمعنويات العالية، التي كانت نتيجة من نتائج أثر الإسلام في النفوس والعقول معا.

عاد رسل المقوقس من عند عمرو ، إلى المقوقس قبل فتح حصن بابليون ، وكان المقوقس يومئذ في جزيرة الروضة ، فقال المقوقس لرسله: (كيف رأيتموهم؟) فقالوا: (رأينا قوما، الموت أحب إلى أحدهم من [ ص: 118 ] الحياة، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأجيرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون بصلاتهم) [105] .

ووصف المقوقس المسلمين الفاتحين فقال: (والله إنهم على قلتهم وضعفهم -يريد المسلمين- أقوى وأشد منا، على كثرتنا وقوتنا.. إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل، يتمنى ألا يرجع إلى أهله ولا بلده، ويرون أن لهم أجرا عظيما، فيمن قتلوا منا، ويقولون إنهم إن قتلوا، دخلوا الجنة، وليس لهم لذة في الدنيا ولا رغبة، إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت، ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟ وكيف صبرنا معهم [106] ؟

ومهما يقال في تأييد هـذين القولين: قول رسل المقوقس، وقول المقوقس، في وصف المسلمين الفاتحين، تصديقا، أو تشكيكا، فإن أفعال المسلمين الفاتحين، تصدق هـذين القولين، والأفعال أبلغ وأصدق من الأقوال وأجدى، فالتطبيق العملي للفتح هـو الحكم الفصل في تصديق هـذين [ ص: 119 ] القولين، وغيرهما من أمثالهما من الأقوال، والسيف أصدق إنباء من الكتب.

لقد انتصر العرب بالإسلام، ولن ينتصروا بغيره في يوم من الأيام، والتاريخ خير دليل على ذلك، وكانت انتصارات المسلمين الفاتحين انتصارات عقيدة بدون شك، جعلت من المجتمع الإسلامي الأول، مجتمعا يضم قادة متميزين، وجنودا متميزين، ولم يكونوا كذلك، قبل أن يعتنقوا هـذه العقيدة، ويتمسكوا بتعاليمها، كما هـو معروف، فلما أبطـأ علـى عمـر بن الخطاب فتح مصر ، عزا سبب الإبطاء إلى تغيير الفاتحين ما بأنفسهم [107] .

وقد كان القبط لعمرو أعوانا [108] ، أو كان أكثرهم على أقل تقدير، وخرج معه لفتح الإسكندرية ، جماعة من رؤساء القبط، فأصلحوا للفاتحين الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم [109] ، ولم ينقض القبط، ولا المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض الروم [110] .

وليس موقف القبط بالنسبة للفاتحين، إلا استنكارا لظلم الروم، وإعجابا بعدل المسلمين، فأخلصوا للذين عدلوا، وكرهوا الذين ظلموا، ومصادر القبط القديمة خير شاهد على ذلك. [ ص: 120 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية