الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مـع الـنبـي صلى الله عليه وسلم

1- إسلامـه

كانت الحرب بين المسلمين والمشركين، قد حجزت بين الناس، وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت هـدنة الحديبية ، في ذي القعدة، من السنة السادسة الهجرية، وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، فلم يكن أحد تكلم بالإسلام يعقل شيئا، إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين، الذين يقومون بالشرك والحرب: عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وأشباه لهم، وإنما كانت الهدنة، حتى نقضوا العهد، اثنين وعشرين شهرا، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام، قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحية من نواحي العرب [1] .

ولم يحضر عمرو الحديبية ، ولا صلحها، إذ قصد أرض الحبشة في سفارته القرشية الثانية إلى النجاشي [2] ، وقد أسلم عمرو، قبل سرية مؤتة -بعث الأمراء إلى الشام - التي كانت في شهر جمادى الأولى، من السنة الثامنة الهجرية، وبعد هـدنة الحديبية، وغزوة خيبر [3] ، [ ص: 65 ] التي كانت في شهر محرم من السنة السابعة الهجرية، أي أنه أسلم قبل عمرة القضاء ، التي كانت في شهر ذي القعدة، من السنة السابعة الهجرية، وقيل: أسلم بعد عمرة القضاء [4] ، فقد أسلم عمرو ، وخالد ابن الوليد ، وعثمان بن طلحة [5] ، في شهر صفر من السنة الثامنة الهجرية [6] في هـدنة الحديبية [7] .

لقد كان عمرو، يفكر باعتناق الإسلام، قبل إعلان إسلامه، ولكنه أعلن إسلامه سرا، على يدي النجاشي [8] ، ومن الواضح، أنه كان يراود نفسه على الإسلام، قبل إعلانه سرا للنجاشي، فأعلنه للنجاشي، تحقيقا لتطلعاته الشخصية، وموافقة للنجاشي لإرضائه، دون أن يناقض نفسه، في هـذه الموافقة، فما كان مضطرا لإعلان إسلامه للنجاشي، في حال من الأحوال.

وكان عمرو، قد هـم بالإقبال إلى رسول صلى الله عليه وسلم ، بالمدينة المنورة ، في حين انصرافه من أرض الحبشة ، بعد عودته في سفارته الثانية، ثم لم يعزم له، حتى سنة ثمان الهجرية [9] . [ ص: 66 ]

- وقد ( ذكر عمرو ، قصة إسلامه، فقال:... ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيت خالد بن الوليد ، وذلك قبيل الفتح - فتح مكة الذي كان في رمضان من السنة الثامنة الهجرية- وهو مقبل من مكة ، فقلت: أين يا أبا سليمان؟! قال: والله لقد استقام المنسم [10] ، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا المدينة ، على رسول صلى الله عليه وسلم ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله! إني أبايعك، على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمرو! بايع، فإن الإسلام، يجب [11] ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها. قال: فبايعته، ثم انصرفت. )

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ( فإن الإسلام يحت [12] ما كان قبله، وإن الهجرة تحت ما كان قبلها ) ، وكان عثمان بن طلحة مع عمرو وخالد بن الوليد [13] .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، حين رأى عمرا وصاحبيه، قد قال لأصحابه: ( ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها ) يعني أنهم وجوه أهل مكة [14] . [ ص: 67 ]

وأصبح عمرو بعد إسلامه، موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكفاياته المتميزة، وحسن إسلامه، قال عمرو واصفا هـذه الثقة الغاليـة: " ... فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه [15] ، منذ أسلمت " [16] .

وقد سأل رجل عمرو بن العاص ، في يوم من الأيام: (ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت في عقلك ؟) قال: (إنا كنا مع قوم، لهم علينا تقدم، وكانوا ممن توازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكروا عليه، فلذنا بهم، فلما ذهبوا، وصار الأمر إلينا، نظرنا، وتدبرنا، فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك مني، من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم، فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله، ربك ورب من قبلك، ومن بعدك! أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى! قلت: فنحن أوسع عيشا أم هـم؟ قال: هـم! قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم، إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمرا في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي، أن الذي يقوله محمد، عن أن البعث بعد الموت، ليجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل) [17] . [ ص: 68 ]

( قال عمرو : ثم جعل الإسلام في قلبي، فأتيت رسول صلى الله عليه وسلم ، أبايعه، فقلت: ابسط يمينك أبايعك يا رسول الله! فبسط يده، ثم إني قبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟! فقلت: أردت أن أشترط! فقال: تشترط ماذا؟ فقلت: أشترط أن يغفر لي! فقال: أما علمت يا عمرو، أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله فقد رأيتني، ما من أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجل في عيني منه، ولو سئلت أن أنعته ما أطقت، لأني لم أكن أطيق، أن أملأ عيني منه، إجلالا له ) [18] .

لقد أسلم عمرو بعد تفكير طويل، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن إسلامه: ( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ) [19] .

وهذا الوصف النبوي الوجيز، لإسلام عمرو، يجزي من أبلغ المطولات، وأوضحها وأشملها، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة ، في شهر رمضان، من السنة الثامنة الهجرية، وألقى خطابه من على باب الكعبة المشرفة ، وعفا عن قريش ، وطاف بالكعبة سبعا، ودخلها، فاجتمع الناس لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هـذه بيعة الرجال. [ ص: 69 ]

وأما بيعة النساء، فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه نساء من قريش ، وكان من بين النساء المبايعات، ريطة بنت منبه بن الحجاج [20] .

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص ، قد أسلم قبل أبيه [21] ، فاستكملت عائلة عمرو، وجمع شملها تحت لواء الإسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية