الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- فـي ليبيـا [1] .

أ - أراد عمرو القضاء على سلطان الروم في المنطقة الواقعة غربي الديار المصرية، ليتخلص من تعرض الروم بمصر من الغرب، إذ كان الروم يحتلون تلك المناطق، ويشكلون تهديدا بريا خطرا لمصر، فسار يخترق الصحراء، حتى بلغ ( برقة ) [2] .

وكانت برقة، قبل الفتح الإسلامي، تابعة للإسكندرية ، تحت حكم الروم، وكانت أخبار فتح المسلمين لمصر ، قد انتشرت في كل البلاد المجاورة، وقد اشتملت تلك الأخبار على ما أظهره المسلمون من شجاعة وإقدام، وعلى ما طبقوه من عدل ومساواة، واحترام معابد المغلوبين، وأملاكهم، وأعراضهم، فكانت هـذه الأخبار مطمئنة لنفوس أهل برقة.

وقد انتهى عمرو من فتح الإسكندرية الأول في ذي القعدة من سنة إحدى وعشرين الهجرية، الموافق النصف الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) [ ص: 121 ] من سنة (642م) ، فسار بجيشه إلى برقة لفتحها، ففتحها عمرو ، وصالح أهلها على الجزية [3] ، وكان ذلك سنة اثنتين وعشرين الهجرية [4] ... وفي رواية أخرى: أن فتحها كان سنة إحدى وعشرين الهجرية [5] ..

وفتحها سنة اثنتين وعشرين الهجرية أصح، لأنه من المعقول أن يبقى عمرو في الإسكندرية بعد فتحها، حتى تستقر أمورها، ويسيطر عليها سيطرة كاملة، فإذا كانت المسافة بين الإسكندرية وبرقة لا تقطع إلا بعشرين يوما على الأقل، سيرا على الأقدام، وعلى الدواب، اتضح لنا أن المدة الباقية من شهري ذي القعدة، وذي الحجة، لا تكفي لاستقرار الأمور في الإسكندرية، وإكمال التنقل بين الإسكندرية وبرقة، لذلك يبدو أن القول بفتحها سنة اثنتين وعشرين الهجرية، أقرب إلى الصحة، ويتفق مع المنطق السليم.

وقد صالح عمرو أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار [6] ، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابي خراج، إنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها [7] ، فكان أهل برقة يبعثون بخراجهم إلى والي مصر، من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث، فكانوا أخصب قوم بالمغرب، ولم يدخلها فتنـة، وكـان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (لولا مالي بالحجاز، [ ص: 122 ] لنزلت برقة ، فما أعلم منزلا أسلم، ولا أعزل منها) [8] ..

وقد هـدم المسلمون أسوار مدن برقة، خوفا من ارتداد أهلها، ومحاربة المسلمين من وراء الأسوار [9] ، أو خوفا من عودة الروم إليها، والدفاع عنها، بالاستفادة من تلك الأسوار.

ومن برقة بعث عمرو إلى ( زويلة ) [10] . عقبة بن نافع الفهري ، فافتتح زويلة صلحا [11] ، وكان فتحها سنة اثنتين وعشرين أيضا.

ومن الواضح أن سبب بعث هـذه القوة بقيادة عقبة، هـو لترصين فتح برقة من الجنوب والجنوب الغربي، بالسيطرة على سكان زويلة، وحرمانهم من التعرض بالمسلمين الفاتحين في برقة، ولتأمين عمق سوقي للفتح في برقة، ولتأمين طريق مواصلات جيش عمرو، المتجه من برقة نحو الغرب.

وكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بعد فتح زويلة ، يعلمه أنه قد ولى عقبة بن نافع الفهري المغرب، فبلغ زويلة، وأن من [ ص: 123 ] بين زويلة وبرقة سلم كلهم حسنة طاعتهم، قد أدى مسلمهم الصدقة، وأقر معاهدهم بالجزية ، وأنه قد وضع على أهل زويلة، ومن بينه وبينها، ما رأى أنهم يطيقونه، وأمر عماله أن يأخذوا الصدقة من الأغنياء، فيردوها في الفقراء، ويأخذوا الجزية من الذمة، فتحمل إليه بمصر ، وأن يؤخذ من أرض المسلمين العشر ونصف العشر [12] ، ومن أهل الصلح صلحهم.

وقد فرض عمرو على أهل زويلة ثلاثمائة رأس من العبيد، وفرض عليهم ما يطيقونه، وهو ما يتفق مع وضع البلد حينذاك، إذ كانوا يتاجرون بالرقيق، يستوردونه من الجنوب، ويصدرونه إلى الشمال.

وهكذا فتحت برقة وشطر فزان .

ب - وتوجه عمرو إلى طرابلس على طريق الساحل، وهو آمن من أن يؤتى من الجنوب، لوجود عقبة في الجنوب، كما أمن عقبة أن يؤتى من الشمال لوجود عمرو في الشمال.

ومر عمرو في طريقه إلى طرابلس بمدينة ( سرت ) [13] ، ففتحها، ولم يجد عناء في فتحها، ولم يذكر أحد أنها فتحت عنوة أو صلحا، [ ص: 124 ] مما يدل على أنها لم تكن ذات خطر، فاكتفى منها المسلمون بالاستسلام، وسار المسلمون في طريقهم إلى طرابلس ، ومروا في طريقهم إليها بـ ( لبدة ) [14] ، فوجدوها خرابا مهدمة، وحواليها قليل من السكان، وهم خليط من البربر والروم ، ولم ينقل أحد من المؤرخين، أنهم وجدوا فيها أي مقاومة [15] .

ونزل عمرو ( أطرابلس ) [16] سنة اثنتين وعشرين الهجرية، فنزل القبة التي على الشرف، من شرقيها [17] ، وحاصر المدينة فامتنع أهلها عن التسليم، وتحصنوا داخل السور، وكان سور طرابلس من المناعة بحيث لم يقدر المسلمون أن يتسوروه، كما لم يقدروا أن يقتحموا أبوابه، وكان السور يحيط بالمدينة من جهة الشرق والغرب والجنوب، ولم تكن المدينة مسورة من الشمال بينها وبين البحر.

وبقي المسلمون على حصارها، نحو شهر، لا يقدرون منها على شيء. [ ص: 125 ]

وفي ذات صباح، ذهب سبعة من المسلمين للاستطلاع، أو للصيد، وكانوا مسلحين بسيوفهم، ورماحهم، فساروا حتى وصلوا إلى جهة السور الغربية الشمالية، فوجدوا السور غير متصل بالبحر، لأنها لم تكن مسورة من الناحية الشمالية كما ذكرنا، وقد يكون البحر في حالة جزر، مما زاد في اتساع الطريق بين نهاية السور والبحر، ورأوا أنه من الممكن الوصول إلى داخل المدينة من هـذه الفجوة، فدخلوها من فورهم، من ناحية الكنيسة القديمة ، وهو مكان مرتفع يقع في الشمال الغربي من المدينة ، وقد أعملوا سيوفهم في رقاب الروم ، وعلت أصواتهم بالتهليل والتكبير، وسمع عمرو ، وبقية المسلمين، تكبير إخوانهم داخل السور، فأسرعوا إليهم، وتكاثر المسلمون، وعلت سيوفهم رقاب الروم، فذهلوا وذعروا، فلم يسعهم إلا الفرار، وتدافعوا إلى الطرقات المؤدية إلى السفن الراسية على شاطيء المدينة، ناجين بأنفسهم إلى عرض البحر، ففتح المسلمون المدينة ، وغنموا كل ما فيها، وكانت غنائم كثيرة، باعها عمرو، وفرق ثمنها على المسلمين [18] .

ولم يذكر أحد من المؤرخين أن الروم قاوموا المسلمين، حين اقتحموا عليهم المدينة، ويبدو أن سبب ذلك هـو أثر مباغتة المسلمين للروم في دخول المدينة من مكان لا يتوقعونه، وفي زمان لا يتوقعونه، فاستسلموا للمسلمين بدون مقاومة تذكر. [ ص: 126 ]

وقد هـدم المسلمون سور المدينة، لأنهم خافوا من انتقاض الروم [19] .

وكان أهل ( حصن سبرة ) [20] قد تحصنوا، لما نزل عمرو على طرابلس ، فلما امتنعوا عليه بطرابلس، أمنوا واطمأنوا، فلما فتحت طرابلس ، جند عمرو عسكرا كثيفا، وسيره إلى سبرة، فصبحوها، وقد فتح أهلها الباب، وأخرجوا مواشيهم لتسرح، لأنهم لم يكن بلغهم خبر فتح طرابلس، فوقع المسلمون عليهم، ودخلوا البلد مكابـرة، وغنمـوا ما فيه، وعادوا إلى عمرو [21] .

وكان الجند، الذي جرده عمرو لفتح سبرة ، من الخيل الكثيفة، التي بعثها من ليلته [22] ، لذلك استفاد فرسان عمرو من سرعة الحركة، فباغتوا أهل سبرة بالزمان، إذ وصلوا إلى المدينة قبل أن يتسامعوا بفتح طرابلس، فانهارت معنوياتهم، ولم يكن أمامهم مسلك يسلكونه غير الاستسلام.

لقد سبقت خيل عمرو الأخبار، فباغت فرسانه المدافعين عن سبرة، وشلوا تفكيرهم، وأجبروهم على الاستسلام، وكان الفرسان فاتحو سبرة بقيادة عبد الله بن الزبير بن العوام [23] . [ ص: 127 ]

ولا شك في أن أخبار حصار المسلمين لطرابلس وصلت إلى أهل سبرة ( صبراتة ) ، وليس من المعقول أن يبقى المسلمون محاصرين لطرابلس نحو شهر، ولا تصل أخبارهم إليها، خصوصا لما بينها وبين طرابلس من الروابط الوثيقة، ويظهر أنه لما طال حصار المسلمين لطرابلس ، ظن أهل صبراتة أنهم لا يقدرون على فتحها، فاستكانوا لهذا الظن وأمنوا، وإذا عجز المسلمون عن فتح طرابلس -في ظنهم- فهم أعجز عن فتح صبراتة، لأن سورها أقوى من سور طرابلس، وسكانها أكثر من سكان طرابلس، فلم يهتموا لأمر المسلمين كثيرا، ولم يعملوا على وقاية مدينتهم من إغارة المسلمين [24] ، فاستهانوا بالمسلمين، فكلفتهم هـذه الاستهانة غاليا.

جـ - ولما انتهى المسلمون من فتح صبراتة ، ساروا إلى ( شروس ) [25] ، وهي أكبر عواصم البربر القديمة في جبل (نفوسة) [26] ، التي كانت موجودة زمن الفتح الإسلامي، وما زالت خرائبها إلى اليوم، [ ص: 128 ] وكانت إحدى عواصم الجبل، وكانت تحتوي على نحو ثلاثمائة قرية، والعاصمة الأخرى هـي ( جادو ) [27] .

وما زال المسلمـون يحاولون فتح شروس حتى فتحـوها، ولكننـا لا ندري هـل فتحت صلحا أو عنوة؟ إذ لم يتطرق إلى ذلك أحد المؤرخين وغيرهم [28] .

وقبل أن يغادر " عمرو مدينة سروس (شروس ) ، كتب إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة ، يستأذنه في فتح إفريقية (تونس ) : (إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها، فعل) . فلم يوافقه عمر، ورد عليه بكتاب هـذا نصه: (لا، إنها ليست بإفريقيـة، ولكنها المفرقـة، غادرة مغدور بهـا، لا يغزوها أحد ما بقيت) . "

وذلك أن أهلها كانوا يؤدون إلى ملك الروم شيئا، فكانوا يغدرون به كثيرا، وكان ملك الأندلس صالحهم ثم غدر بهم، وكان خبرهم قد بلغ عمر [29] . [ ص: 129 ]

د - ولما أنجز عمرو فتح طرابلس [30] -بضم الباء واللام، أو بضم الباء وسكون اللام- وجـه بسـر بن أبي أرطأة العامـري القرشي [31] إلى ( ودان ) [32] . وذلك في سنة ثلاث وعشرين الهجرية، فصالح أهلها على ثلاثمائة رأس وستين رأسا من العبيد [33] .

وبعد أن غادرهم بسر، ارتدوا وبقوا على ردتهم، إلى أن فتحهم عقبة بن نافع سنة ست وأربعين الهجرية [34] .

لقد فتح عمرو ليبيا : من برقة إلى صبراته ، ومن بلاد الجنوب شروس وزويلة ، وودان ، واستغرقت أعمال الفتح من سنة اثنتين وعشرين الهجرة إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وقد فتحت هـذه [ ص: 130 ] البلاد عنوة (بالحرب) إلا برقة وزويلة ، فإنهما فتحتا صلحا [35] .

وكان هـدف فتح برقة حماية البلاد المصرية، من تعرض الروم برا من الغرب، وكان هـدف فتح زويلة هـو حماية برقة من تعرض الروم وحلفائهم الليبيين برا من الجنوب والجنوب الغربي، وكان هـدف فتح منطقة طرابلس هـو حماية برقة، من تعرض الروم برا من الغرب، وحماية منطقة زويلة من تعرض الروم برا من الغرب، وحماية منطقة زويلة من تعرض الروم برا من الشمال والشمال الغربي، وكان الهدف من فتح منطقة ودان ، هـو حماية منطقة طرابلس من الجنوب والجنوب الشرقي من تعرض الروم وحلفائهم الليبيين بالمسلمين.

ولكن لم يكن فتح عمرو لليبيا فتحا مستداما، بل انتقض كثير من أجزائها، فاستعاد المسلمون فتحها من جديد

















[36] ، ولكن الفضل الأول في فتحها كان لعمرو بن العاص. [ ص: 131 ]

وكان عمرو قبل مغادرته مصر ، قد اتفق مع المقوقس أن يخبره بكـل ما يحدث بعده في مصر من حوادث مصيرية.. وبعد أن انتهى عمرو من فتح شروس ، وقبل أن يرتحل عنها، أتاه كتاب من المقوقس، يذكر له فيه أن الروم يريدون نكث العهد، ونقض ما كان بينهم وبينه، وكان عمرو قد عاهد المقوقس ألا يكتمه أمرا يحدث، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه [37] ، وعاد إلى مصر قبل مقتل عمر بن الخطاب في (27 ذي الحجة) من سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وترك عقبة بن نافع في زويلة، ليتم فتحها سنة ثلاث وعشرين الهجرية، ووصل برقة قبل مقتل عمر بن الخطاب [38] .

التالي السابق


الخدمات العلمية