الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

عمرو بن العاص (القائد المسلم والسفير الأمين) [الجزء الأول]

اللواء الركن / محمود شيت خطاب

2- العـالـم

كان عمرو، عالما من علماء الدين الحنيف، قدمه في العلم -على الرغم من تأخر إسلامه- ذكاؤه، وحرصه على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه العلماء، وإتقانه القراءة والكتابة، وكان إتقانهما في أيامه نادرا في أمة تفشت فيها الأمية، فقد كان عمرو أحد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم [1] . [ ص: 150 ]

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثين حديثا [2] ، أو سبعة وثلاثين حديثا [3] ، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث، ولمسلم حديثان، وللبخاري بعض حديث [4] ، وروى عنه أبو عثمان النهدي ، وقيس بن أبي حازم ، وعروة بن الزبير ، وعبد الرحمن بن شماسة (بفتح الشين وضمها) [5] ، كما روى عنه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص [6] ، ومولاه أبو قيس ، وعلي بن رباح اللخمي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعمارة بن خزيمة بن ثابت ، وغيرهم، وروى عن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها [7] .

وكان متفقها في الدين، يدل على ذلك معاملته للأسرى والسبايا، وفرضه الجزية والخراج ، كما تدل على ذلك نصوص العهود، التي عقدها مع أهل البلاد المفتوحة، وبخاصة في مصر ، ومعاملته أهل الذمة، وعرضه تعاليم الفتح في الإسلام: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.

وكان مجتهدا في الدين; اجتهد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، واجتهد بعد التحاق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى. [ ص: 151 ]

ومن اجتهاده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ( قال عمرو : احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكرت ذلك له، فقال: ياعمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت: نعم يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) (النساء:29) ، فتيممت ثم صليت! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شيئا ) [8] ، وكان ذلك في سرية ذات السلاسل ، التي كان من جنودها أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنهم [9] .

" وكان عمرو يقول: (عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل " [10] .

أما اجتهاد عمرو بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، ففي سنة ثماني عشرة الهجرية، كان طاعـون عمواس ، فلما اشتعل قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال: " أيها الناس إن هـذا الوجع رحمة ربكم، [ ص: 152 ] ودعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة ، يسأل الله أن يقسم له منه حظه " ، فطعن، فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل [11] بعده، فقام خطيبا، فقال: " أيها الناس! إن هـذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم " ، فطعـن ابنه عبد الرحمن ابن معاذ ، فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها، ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيـا) ، فلما مـات، استخـلف على الناس " عمـرو ابن العاص ، فقام خطيبا في الناس فقال: (أيها الناس! إن هـذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعـل اشتعال النـار، فتجبلوا [12] منه في الجبـال) ، فقـال أبو وائلة الهذلي [13] : (كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت شر من حماري هـذا [14] ) ، قال عمرو: (والله ما أرد عليك ما تقـول! وأيم الله لا نقيم عليه " ، ثم خرج، وخرج الناس فتفرقوا، ورفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمـر بن الخطاب من رأي عمـرو بن العـاص، فـوالله ما كرهه [15] . [ ص: 153 ]

وقد اختلف هـؤلاء الصحابة الكرام في اجتهادهم، ولكن عمر بن الخطاب أقر عمرا على اجتهاده.

( وقد كان عمرو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم واجتهد، ثم أخطأ، فله أجر ) [16] .

( وعن عمرو بن العاص، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان يختصمان، فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو! فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله! قال: وإن كان. قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟ قال: إن أنت قضيت بينهما، فأصبت القضاء، فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت، فلك حسنة ) [17] . وتكليفه بالقضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ، دليل على متانته في الفقه، وذكائه، وحصافته.

وكان عمرو من أصحاب الفتيا من الصحابة [18] ، وكفى بذلك دليلا على علمه.

وقد وصفه رجل فقال: (صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلا أبين قرآنا، ولا أكرم خلقا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه) [19] . [ ص: 154 ]

لقد كان عمرو عالما من علماء الدين، تلقى علمه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قارئا للقرآن الكريم، محدثا، فقيها، مجتهدا في الدين، من أصحاب الفتيا من الصحابة، ومن قضاة المسلمين الأولين.

التالي السابق


الخدمات العلمية