الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (7) قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم . .

                                                                                                                                                                                                                                      الآية على قلوبهم : متعلق بـ(ختم)، و"على سمعهم" يحتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك، أعني نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى: [ ص: 111 ] وختم على سمعه ويحتمل أن يكون خبرا مقدما وما بعده عطف عليه، و"غشاوة" مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفا أو حرف جر تاما وقدم عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديم الخبر حينئذ واجبا لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآية من هذا القبيل، وهذا بخلاف قوله تعالى: وأجل مسمى عنده لأن في تلك الآية مسوغا آخر وهو الوصف، فعلى الاحتمال الأول يوقف على "سمعهم" ويبتدأ بما بعده، وهو "وعلى أبصارهم غشاوة" فعلى أبصارهم خبر مقدم، وغشاوة مبتدأ مؤخر، وعلى الاحتمال الثاني يوقف على "قلوبهم"، وإنما كرر حرف الجر وهو "على" ليفيد التأكيد أو ليشعر ذلك بتغاير الختمين، وهو أن ختم القلوب غير ختم الأسماع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد فرق النحويون بين: "مررت بزيد وعمرو" وبين: "مررت بزيد وبعمرو"، فقالوا: في الأول هو مرور واحد وفي الثاني هما مروران، وهو يؤيد ما قلته، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين، أعني جعل "وعلى سمعهم" معطوفا على قوله "على قلوبهم" وجعله خبرا مقدما، وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول، وقد يقال على الاحتمال الثاني إن تكرير الحرف يشعر بتغاير الغشاوتين، وهو أن الغشاوة على السمع غير الغشاوة على البصر كما تقدم ذلك في الختمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "غشاوة" نصبا، وفيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: على إضمار فعل لائق، أي: وجعل على أبصارهم غشاوة، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى: وجعل على بصره غشاوة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: الانتصاب على إسقاط حرف [ ص: 112 ] الجر، ويكون "وعلى أبصارهم" معطوفا على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حذف حرف الجر فانتصب ما بعده كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      148 - تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي إذا حرام



                                                                                                                                                                                                                                      أي تمرون بالديار، ولكنه غير مقيس.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن يكون "غشاوة" اسما وضع موضع المصدر الملاقي لـ(ختم) في المعنى؛ لأن الختم والتغشية يشتركان في معنى الستر، فكأنه قيل: "وختم تغشية" على سبيل التأكيد، فهو من باب "قعدت جلوسا" وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي : "قراءة الرفع أولى؛ لأن النصب: إما أن تحمله على (ختم) الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه "ختم" تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، فيجيء الكلام من باب:


                                                                                                                                                                                                                                      149 - يا ليت زوجك قد غدا     متقلدا سيفا ورمحا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      150 - علفتها تبنا وماء باردا     حتى شتت همالة عيناها

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 113 ] ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة ولا اختيار".

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل بعضهم هذه العبارة، وقال: "لا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إما أن تحمله على (ختم) الظاهر"، وكيف تحمل "غشاوة " المنصوب على "ختم" الذي هو فعل وهذا ما لا حمل فيه؟! ثم قال: "اللهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم دعاء عليهم لا خبر، ويكون (غشاوة) في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفا على "ختم" عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو: "رحم الله زيدا وسقيا له"، فتكون إذ ذاك قد حلت بين "غشاوة" المعطوف وبين "ختم" المعطوف عليه بالجار والمجرور" انتهى، وهو تأويل حسن، إلا أن فيه مناقشة لفظية؛ لأن الفارسي ما ادعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرف، فتحرير التأويل أن يقال: فيكون قد حلت بين (غشاوة) وبين حرف العطف بالجار والمجرور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "غشاوة" بفتح الغين وضمها، و"عشاوة" بالمهملة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصوب القراءات المشهورة؛ لأن الأشياء التي تدل على الاشتمال تجيء أبدا على هذه الزنة كالعمامة والضمامة والعصابة.

                                                                                                                                                                                                                                      والختم لغة: الوسم بطابع وغيره و"القلب" أصله المصدر فسمي به هذا العضو، وهو اللحمة الصنوبرية لسرعة الخواطر إليه وترددها عليه، ولهذا قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 114 ]

                                                                                                                                                                                                                                      151 - ما سمي القلب إلا من تقلبه     فاحذر على القلب من قلب وتحويل



                                                                                                                                                                                                                                      ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقا بينه وبين أصله، وكثيرا ما يراد به العقل، ويطلق - أيضا - على لب كل شيء وخالصه.

                                                                                                                                                                                                                                      والسمع والسماع مصدران لسمع، وقد يستعمل بمعنى الاستماع، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      152 - وقد توجس ركزا مقفر ندس     بنبأة الصوت ما في سمعه كذب



                                                                                                                                                                                                                                      أي في استماعه، والسمع - بالكسر - الذكر الجميل، وهو - أيضا - ولد الذئب من الضبع، ووحد - وإن كان المراد به الجمع كالذين قبله وبعده - لأنه مصدر حقيقة، ولأنه على حذف مضاف، أي مواضع سمعهم، أو يكون كنى به عن الأذن، وإنما وحده لفهم المعنى كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      153 - كلوا في بعض بطنكم تعفوا     فإن زمانكم زمن خميص



                                                                                                                                                                                                                                      أي: بطونكم، ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      154 - لها جيف الحسرى فأما عظامها     فبيض وأما جلدها فصليب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 115 ] أي: جلودها، ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      155 - لا تنكروا القتل وقد سبينا     في حلقكم عظم وقد شجينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا "على أسماعهم" وهي تؤيد هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      والأبصار: جمع بصر، وهو نور العين التي تدرك به المرئيات، قالوا: وليس بمصدر لجمعه، ولقائل أن يقول: جمعه لا يمنع كونه مصدرا في الأصل، وإنما سهل جمعه كونه سمي به نور العين فهجرت فيه معنى المصدرية كما تقدم في قلوب جمع قلب، وقد قلتم إنه في الأصل مصدر ثم سمي به، ويجوز أن يكنى به عن العين كما كني بالسمع عن الأذن، وإن كان السمع في الأصل مصدرا كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      والغشاوة الغطاء، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      156 - تبعتك إذ عيني عليها غشاوة     فلما انجلت قطعت نفسي ألومها



                                                                                                                                                                                                                                      وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      157 - هلا سألت بني ذبيان ما حسبي     إذا الدخان تغشى الأشمط البرما



                                                                                                                                                                                                                                      وجمعها غشاء، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة، وقيل: غشاوى مثل [ ص: 116 ] أداوى، قال الفارسي : "ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو، وإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء وهو غشي يغشى بدليل قولهم: الغشيان، والغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر عبارته أن الواو بدل من الياء، فالياء أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة الواو، والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين: غ ش و،غ ش ي، ثم تصرفوا في إحدى المادتين واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب الواو ياء من غير سبب، وأيضا فالياء أخف من الواو فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولهم عذاب عظيم : "لهم" خبر مقدم فيتعلق بمحذوف، و"عذاب" مبتدأ مؤخر، و"عظيم" صفته، والخبر هنا جائز التقدم؛ لأن للمبتدأ مسوغا وهو وصفه، فهو نظير: وأجل مسمى عنده من حيث الجواز.

                                                                                                                                                                                                                                      والعذاب في الأصل: الاستمرار ثم سمي به كل استمرار ألم، وقيل: أصله المنع، وهذا هو الظاهر، ومنه قيل للماء: عذب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب يمنع من الجريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"عظيم" اسم فاعل من عظم، نحو: كريم من كرم غير مذهوب به مذهب الزمان، وأصله أن توصف به الأجرام، ثم قد توصف به المعاني، وهل هو والكبير بمعنى واحد أو هو فوق الكبير؛ لأن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير، والحقير دون الصغير؟ قولان.

                                                                                                                                                                                                                                      وفعيل له معان كثيرة، يكون اسما وصفة، والاسم مفرد وجمع، والمفرد [ ص: 117 ] اسم معنى واسم عين، نحو قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب، والصفة مفرد فعلة كعري يجمع على عراة، ومفرد فعلة كسري يجمع على سراة، ويكون اسم فاعل من فعل نحو: عظيم من عظم كما تقدم، ومبالغة في فاعل نحو: عليم من عالم، وبمعنى أفعل كشميط بمعنى أشمط، ومفعول كجريح بمعنى مجروح، ومفعل كسميع بمعنى مسمع، ومفعل كوليد بمعنى مولد، ومفاعل كجليس بمعنى مجالس، ومفتعل كبديع بمعنى مبتدع، ومتفعل كسعير بمعنى متسعر، ومستفعل كمكين بمعنى مستمكن، وفعل كرطيب بمعنى رطب، وفعل كعجيب بمعنى عجب، وفعال كصحيح بمعنى صحاح، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ، وبمعنى الواحد والجمع نحو خليط، وجمع فاعل كغريب جمع غارب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية