الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (10) قوله تعالى: في قلوبهم مرض : الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      الجار والمجرور خبر مقدم واجب التقديم لما تقدم ذكره في قوله: وعلى أبصارهم غشاوة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمشهور تحريك الراء من "مرض"، وروى الأصمعي عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مرض يمرض.

                                                                                                                                                                                                                                      والمرض: الفتور، وقيل: الفساد، ويطلق على الظلمة، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      178 - في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر



                                                                                                                                                                                                                                      أي لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد بمرضت فسدت، ثم بين جهة الفساد بالظلمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فزادهم الله مرضا : هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسببة عنها، بمعنى أن سبب الزيادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغل والحسد لظهور دين الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      و"زاد" يستعمل لازما ومتعديا لاثنين، ثانيهما غير الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذف معموليه وأحدهما اختصارا واقتصارا، تقول: زاد المال، فهذا لازم، وزدت زيدا خيرا، ومنه وزدناهم هدى فزادهم الله مرضا "وزدت [ ص: 130 ] زيدا" ولا تذكر ما زدته، وزدت مالا، ولا تذكر من زدته، وألف "زاد" منقلبة عن ياء لقولهم: يزيد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولهم عذاب أليم نظير قوله تعالى: ولهم عذاب عظيم وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأليم هنا بمعنى: مؤلم، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      179 - ونرفع من صدور شمردلات     يصك وجوهها وهج أليم



                                                                                                                                                                                                                                      ويجمع على فعلاء كشريف وشرفاء، وأفعال مثل: شريف وأشراف، ويجوز أن يكون (فعيل) هنا للمبالغة محولا من فعل بكسر العين، وعلى هذا يكون نسبة الألم إلى العذاب مجازا؛ لأن الألم حل بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم: شعر شاعر.

                                                                                                                                                                                                                                      و بما كانوا يكذبون متعلق بالاستقرار المقدر في "لهم" أي: استقر لهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"ما" يجوز أن تكون مصدرية أي بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن لـ"كان" مصدرا، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      180 - ببذل وحلم ساد في قومه الفتى     وكونك إياه عليك يسير



                                                                                                                                                                                                                                      فقد صرح بالكون.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا جائز أن يكون مصدر كان التامة لنصبه [الخبر] بعدها، وهو: "إياه"، على أن للنظر في هذا البيت مجالا ليس هذا موضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى القول بأن لها مصدرا لا يجوز التصريح به معها، لا تقول: [ ص: 131 ] "كان زيد قائما كونا"، قالوا: لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمعوض منه، وحينئذ فلا حاجة إلى ضمير عائد على "ما" لأنها حرف مصدري على الصحيح خلافا للأخفش وابن السراج في جعل المصدرية اسما.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون "ما" بمعنى الذي، وحينئذ فلا بد من تقدير عائد أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حذف العائد لاستكمال الشروط، وهو كونه منصوبا متصلا بفعل، وليس ثم عائد آخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة اسمية هو الأظهر، قال: "لأن الهاء المقدرة عائدة على "الذي" لا على المصدر"، وهذا الذي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أنه لا بد من هاء مقدرة، حتى يلزم جعل "ما" اسمية، بل من قرأ "يكذبون" مخففا فهو عنده غير متعد لمفعول، ومن قرأه مشددا فالمفعول محذوف لفهم المعنى، أي: بما كانوا يكذبون الرسول والقرآن، أو يكون المشدد بمعنى المخفف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الكوفيون : "يكذبون" بالفتح والتخفيف، والباقون بالضم والتشديد.

                                                                                                                                                                                                                                      ويكذبون مضارع كذب بالتشديد، وله معان كثيرة: الرمي بكذا، ومنه الآية الكريمة، والتعدية نحو: فرحت زيدا، والتكثير نحو: قطعت [ ص: 132 ] الأثواب، والجعل على صفة نحو: قطرته أي: جعلته مقطرا، ومنه:


                                                                                                                                                                                                                                      181 - قد علمت سلمى وجاراتها     ما قطر الفارس إلا أنا



                                                                                                                                                                                                                                      والتسمية نحو: فسقته أي سميته فاسقا، والدعاء له نحو: سقيته أي: قلت له: سقاك الله، أو الدعاء عليه نحو: عقرته، أي: قلت له: عقرا لك، والإقامة على شيء نحو: مرضته، والإزالة نحو: قذيت عينه أي أزلت قذاها، والتوجه نحو: شرق وغرب، أي: توجه نحو الشرق والغرب، واختصار الحكاية نحو: أمن قال: آمين، وموافقة تفعل وفعل مخففا نحو: ولى بمعنى تولى، وقدر بمعنى قدر، والإغناء عن تفعل وفعل مخففا نحو: حمر أي تكلم بلغة حمير، قالوا: "من دخل ظفار حمر" وعرد في القتال هو بمعنى عرد مخففا، وإن لم يلفظ به.

                                                                                                                                                                                                                                      و"الكذب" اختلف الناس فيه، فقائل: هو الإخبار عن الشيء بغير ما هو عليه ذهنا وخارجا، وقيل: بغير ما هو عليه في الخارج سواء وافق اعتقاد المتكلم أم لا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الإخبار عنه بغير اعتقاد المتكلم سواء وافق ما في الخارج أم لا، والصدق نقيضه، وليس هذا موضع ترجيح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية