الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (5) قوله تعالى: اهدنا الصراط : إلى آخرها: اهد: صيغة أمر؛ ومعناها الدعاء. وهذه الصيغة ترد لمعان كثيرة ذكرها الأصوليون. وقال بعضهم: إن وردت صيغة "افعل" من الأعلى للأدنى قيل فيها أمر؛ وبالعكس دعاء؛ ومن المساوي التماس. وفاعله مستتر وجوبا؛ لما مر؛ أي: اهد أنت؛ و"نا" مفعول أول؛ وهو ضمير متصل يكون للمتكلم مع غيره؛ أو المعظم نفسه؛ ويستعمل في موضع الرفع والنصب والجر بلفظ واحد: نحو: قمنا؛ وضربنا زيد؛ ومر بنا؛ ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضمائر. وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك. تقول: أكرمني؛ ومر بي؛ وأنت تقومين يا هند؛ فالياء في المثال الأول منصوبة المحل؛ وفي الثاني مجرورته؛ وفي الثالث مرفوعته. وهذا ليس بشيء؛ لأن الياء في حالة الرفع ليست تلك الياء التي في حالة النصب والجر؛ لأن الأولى للمتكلم؛ وهذه للمخاطبة المؤنثة. وقيل: بل يشاركه لفظ "هم"؛ تقول: هم نائمون؛ وضربهم؛ ومررت بهم؛ فـ "هم" [ ص: 62 ] مرفوع المحل، ومنصوبه، ومجروره؛ بلفظ واحد؛ وهو للغائبين في كل حال، وهذا وإن كان أقرب من الأول، إلا أنه في حالة الرفع ضمير منفصل؛ وفي حالة النصب والجر ضمير متصل؛ فافترقا؛ بخلاف "نا" فإن معناها لا يختلف؛ وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"الصراط": مفعول ثان؛ و "المستقيم": صفته؛ وقد تبعه في الأربعة من العشرة المذكورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل "هدى" أن يتعدى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجر؛ وهو إما: إلى؛ أو اللام؛ كقوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط ؛ يهدي للتي هي أقوم ؛ ثم يتسع فيه؛ فيحذف الحرف فيتعدى بنفسه؛ فأصل اهدنا الصراط: اهدنا للصراط؛ أو إلى الصراط؛ ثم حذف.

                                                                                                                                                                                                                                      والأمر عند البصريين مبني؛ وعند الكوفيين معرب؛ ويدعون في نحو: "اضرب" أن أصله: لتضرب؛ بلام الأمر؛ ثم حذف الجازم وتبعه حرف المضارعة وأتي بهمزة الوصل لأجل الابتداء بالساكن؛ وهذا ما لا حاجة إليه؛ وللرد عليهم موضع أليق به.

                                                                                                                                                                                                                                      ووزن "اهد": افع؛ حذفت لامه؛ وهي الياء؛ حملا للأمر على المجزوم؛ والمجزوم تحذف منه لامه إذا كانت حرف علة. [ ص: 63 ] والهداية: الإرشاد، أو الدلالة، أو التقدم؛ ومنه هوادي الخيل؛ لتقدمها؛ قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      67 - فألحقه بالهاديات ودونه جواحرها في صرة لم تزيل



                                                                                                                                                                                                                                      أو التبيين؛ نحو: وأما ثمود فهديناهم ؛ أي بينا لهم؛ أو الإلهام؛ نحو: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ؛ أي ألهمه لمصالحه؛ أو الدعاء؛ كقوله تعالى: ولكل قوم هاد ؛ أي داع. وقيل هو الميل؛ ومنه إنا هدنا إليك ؛ والمعنى: مل بقلوبنا إليك؛ وهذا غلط؛ فإن تيك مادة أخرى من هاد يهود. وقال الراغب : "الهداية دلالة بلطف؛ ومنه الهدية؛ وهوادي الوحش؛ أي المتقدمات الهادية لغيرها؛ وخص ما كان دلالة بهديت؛ وما كان إعطاء بأهديت".

                                                                                                                                                                                                                                      والصراط: الطريق المستسهل؛ وبعضهم لا يقيده بالمستسهل؛ قال:


                                                                                                                                                                                                                                      68 - فضل عن نهج الصراط الواضح

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 64 ] ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      69 - أمير المؤمنين على صراط     إذا اعوج الموارد مستقيم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      70 - شحنا أرضهم بالخيل حتى     تركناهم أذل من الصراط



                                                                                                                                                                                                                                      أي الطريق؛ وهو مشتق من السرط؛ وهو الابتلاع: إما لأن سالكه يسترطه؛ أو لأنه يسترط سالكه؛ ألا ترى إلى قولهم: "قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها"؟ وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام:


                                                                                                                                                                                                                                      71 - رعته الفيافي بعدما كان حقبة     رعاها وماء المزن ينهل ساكبه



                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا سمي الطريق لقما؛ وملتقما؛ لأنه يلتقم سالكه؛ أو يلتقمه سالكه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصله السين؛ وقد قرأ به قنبل ؛ حيث ورد؛ وإنما أبدلت صادا لأجل حرف الاستعلاء؛ وإبدالها صادا مطرد عنده؛ نحو: صقر في سقر؛ وصلح في سلح؛ وإصبع في إسبع؛ ومصيطر في مسيطر؛ لما بينهما من التقارب. [ ص: 65 ] وقد تشم الصاد في الصراط ونحوه زايا؛ وقرأ به خلف؛ حيث ورد؛ وخلاد الأول فقط؛ وقد تقرأ زايا محضة؛ ولم ترسم في المصحف إلا بالصاد مع اختلاف قراءاتهم فيها؛ كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      والصراط يذكر ويؤنث؛ فالتذكير لغة تميم؛ وبالتأنيث لغة الحجاز؛ فإن استعمل مذكرا جمع في القلة على "أفعلة"؛ وفي الكثرة على "فعل"؛ نحو: حمار وأحمرة وحمر؛ وإن استعمل مؤنثا فقياسه أن يجمع على "أفعل" نحو: ذراع وأذرع. والمستقيم: اسم فاعل من استقام؛ بمعنى المجرد؛ ومعناه السوي من غير اعوجاج؛ وأصله: مستقوم؛ ثم أعل كإعلال نستعين؛ وسيأتي الكلام مستوفى على مادته عند قوله تعالى: " يقيمون الصلاة " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية