الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (17) قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا : "مثلهم" مبتدأ و"كمثل": جار ومجرور خبره، فيتعلق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مبالاة بخلاف من يقول: إن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، والتقدير مثلهم مستقر كمثل، وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون الكاف اسما هي الخبر، ونظره بقول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 155 ]

                                                                                                                                                                                                                                      207 - أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون الكاف اسما مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما مذهب سيبويه فلا يجيز ذلك إلا في شعر، وأما تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنا في البيت نضطر إلى جعلها اسما لكونها فاعلة، بخلاف الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي ينبغي أن يقال: إن كاف التشبيه لها ثلاثة أحوال:

                                                                                                                                                                                                                                      حال يتعين فيها أن تكون اسما، وهي ما إذا كانت فاعلة أو مجرورة بحرف أو إضافة، مثال الفاعل: "أتنتهون ولن ينهى" البيت، ومثال جرها بحرف قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      208 - ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا     تصوب فيه العين طورا وترتقي



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      209 - وزعت بكالهراوة أعوجي     إذا جرت الرياح لها وثابا



                                                                                                                                                                                                                                      ومثال جرها بالإضافة قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      210 - فصيروا مثل كعصف مأكول      . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وحال يتعين أن تكون فيها حرفا، وهي: الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصلة، [ ص: 156 ] وهو ممتنع عند البصريين .

                                                                                                                                                                                                                                      وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: زيد كعمرو.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبعد من زعم أنها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظره بقوله: "فصيروا مثل كعصف" كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل هنا بمعنى القصة، والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصة المستوقد فليست زائدة على هذا التأويل، ولكن المثل بالفتح في الأصل بمعنى مثل ومثيل نحو: شبه وشبه وشبيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل هي في الأصل الصفة، وأما المثل في قوله: "ضرب مثلا" فهو القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، ولذلك حوفظ على لفظه فلم يغير، فيقال لكل من فرط في أمر عسر تداركه: "الصيف ضيعت اللبن"، سواء أكان المخاطب به مفردا أم مثنى أم مجموعا أم مذكرا أم مؤنثا؛ ليدل بذلك على قصد عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      و"الذي" في محل خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكر، ولكن المراد به هنا جمع، ولذلك روعي معناه في قوله: ذهب الله بنورهم وتركهم فأعاد الضمير عليه جمعا، والأولى أن يقال إن "الذي" وقع وصفا لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدلالة عليه، والتقدير: مثلهم كمثل الفريق الذي استوقد أو الجمع الذي استوقد، ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفردا في قوله: "استوقد" و"حوله"، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعا في قوله: "بنورهم، وتركهم".

                                                                                                                                                                                                                                      ووهم أبو البقاء فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النون [ ص: 157 ] تخفيفا، وأن الأصل: الذين، ثم خفف بالحذف، وكأنه جعله مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: وخضتم كالذي خاضوا وقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      211 - وإن الذي حانت بفلج دماؤهم     هم القوم كل القوم يا أم خالد



                                                                                                                                                                                                                                      والأصل: كالذين خاضوا، وإن الذين حانت.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وهم فاحش؛ لأنه لو كان من باب ما حذفت منه النون لوجب مطابقة الضمير جمعا كما في قوله: "كالذي خاضوا" و"دماؤهم"، فلما قال تعالى: استوقد بلفظ الإفراد تعين أحد الأمرين المتقدمين: إما جعله من باب وقوع المفرد موقع الجمع لأن المراد به الجنس، أو أنه من باب ما وقع فيه صفة لموصوف يفهم الجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري ما معناه: إن هذه الآية مثل قوله تعالى: كالذي خاضوا واعتل لتسويغ ذلك بأمرين: أحدهما أن "الذي" لما كان وصلة لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته، قال: "ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا منه على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين".

                                                                                                                                                                                                                                      والأمر الثاني: أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والمفرد فيهن سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا القول فيه نظر من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن قوله ظاهر في جعل هذه الآية من باب حذف نون "الذين"، وفيه ما تقدم من أنه كان ينبغي أن يطابق الضمير جمعا كما في الآية الأخرى التي نظر بها.

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني: أنه اعتقد كون (أل) الموصولة بقية "الذي"، وليس كذلك، بل (أل) الموصولة اسم موصول مستقل، أي: غير مأخوذ من شيء، على أن الراجح [ ص: 158 ] من جهة الدليل كون (أل) الموصولة حرفا لا اسما كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                                      وليس لمرجح أن يرجح قول الزمخشري بأنهم قالوا: إن الميم في قولهم: "م الله" بقية ايمن، فإذا انتهكوا ايمن بالحذف حتى صار على حرف واحد فأولى أن يقال بذلك فما بقي على حرفين؛ لأن (أل) زائدة على ماهية "الذي" فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه بخلاف ميم (ايمن)، وأيضا فإن القول بأن الميم بقية (ايمن) قول ضعيف مردود يأباه قول الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الذي" لغات: أشهرها ثبوت الياء ساكنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تشدد مكسورة مطلقا، أو جارية بوجوه الإعراب، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      212 - وليس المال فاعلمه بمال     وإن أرضاك إلا للذي
                                                                                                                                                                                                                                      ينال به العلاء ويصطفيه     لأقرب أقربيه وللقصي



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا يحتمل أن يكون مبنيا وأن يكون معربا، وقد تحذف ساكنا ما قبلها، كقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      213 - فلم أر بيتا كان أكثر بهجة     من اللذ به من آل عزة عامر



                                                                                                                                                                                                                                      أو مكسورا، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      214 - واللذ لو شاء لكانت برا     أو جبلا أصم مشمخرا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 159 ] ومثل هذه اللغات في "التي" أيضا، قال بعضهم: "وقولهم هذه لغات ليس جيدا؛ لأن هذه لم ترد إلا ضرورة، فلا ينبغي أن تسمى لغات".

                                                                                                                                                                                                                                      واستوقد استفعل بمعنى أفعل، نحو: استجاب بمعنى أجاب، وهو رأي الأخفش، وعليه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      215 - وداع دعا يا من يجيب إلى الندى     فلم يستجبه عند ذاك مجيب



                                                                                                                                                                                                                                      أي: فلم يجبه، وقيل: بل السين للطلب، ورجح قول الأخفش بأن كونه للطلب يستدعي حذف جملة، ألا ترى أن المعنى: استدعوا نارا فأوقدوها، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب، إنما تسبب عن الإيقاد، والفاء في "فلما" للسبب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن السميفع: "كمثل الذين" بلفظ الجمع، "استوقد" بالإفراد، وهي مشكلة، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهم، أي: كأنه نطق بمن، إذ أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم: "ضربني وضربت قومك" أي ضربني من، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من استوقد، والعائد على الموصول محذوف، وإن لم يكمل شرط الحذف، والتقدير: استوقدها مستوقد لهم، وهذه القراءة تقوي قول من يقول: إن أصل الذي: الذين، فحذفت النون.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لما" حرف وجوب لوجوب، هذا مذهب سيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الفارسي [ ص: 160 ] وتبعه أبو البقاء أنها ظرف بمعنى حين، وأن العامل فيها جوابها، وقد رد عليه بأنها أجيبت بـ"ما" النافية و"إذا" الفجائية، قال تعالى: فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا وقال تعالى: فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وما النافية وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفا.

                                                                                                                                                                                                                                      وتكون "لما" - أيضا - جازمة لفعل واحد، ومعناها نفي الماضي المتصل بزمن الحال، ويجوز حذف مجزومها، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      216 - فجئت قبورهم بدءا ولما     فناديت القبور فلم يجبنه



                                                                                                                                                                                                                                      وتكون بمعنى إلا، قال تعالى: وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا في قراءة من قرأه.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أضاء" يكون لازما ومتعديا، فإن كان متعديا فـ"ما" مفعول به، وهي موصولة، و"حوله" ظرف مكان ومخفوض به، صلة لها، ولا يتصرف، وبمعناه: حوال، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      217 - وأنا أمشي الدألى حوالكا      . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 161 ] ويثنيان، قال عليه السلام: "اللهم حوالينا"، ويجمعان على أحوال.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون "ما" نكرة موصوفة، و"حوله" صفتها، وإن كان لازما فالفاعل ضمير النار أيضا، و"ما" زائدة، و"حوله" منصوب على الظرف، العامل فيه "أضاء".

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز الزمخشري أن تكون "ما" فاعلة موصولة، أو نكرة موصوفة، وأنث الفعل على المعنى، والتقدير: فلما أضاءت الجهة التي حوله أو جهة حوله.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء فيها - أيضا - أن تكون منصوبة على الظرف، وهي حينئذ إما بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، التقدير: فلما أضاءت النار المكان الذي حوله أو مكانا حوله، فإنه قال: "يقال: ضاءت النار وأضاءت بمعنى، فعلى هذا تكون "ما" ظرفا وفي "ما" ثلاثة أوجه أحدها: أن تكون بمعنى الذي، والثاني: هي نكرة موصوفة أي: مكانا حوله، والثالث: هي زائدة" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي عبارته بعض مناقشة، فإنه بعد حكمه على "ما" بأنها ظرفية كيف يجوز فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة، وإنما أراد: في "ما" هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      218 - أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم     دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه



                                                                                                                                                                                                                                      يحتمل التعدي واللزوم كالآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن السميفع: (ضاءت) ثلاثيا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 162 ] قوله تعالى: ذهب الله بنورهم هذه الجملة الظاهر أنها جواب "لما".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "جوابها محذوف، تقديره: فلما أضاءت خمدت"، وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: ذهب الله بنورهم مستأنفة أو بدلا من جملة التمثيل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن هذا تقدير مع وجود ما يغني عنه فلا حاجة إليه، إذ التقديرات إنما تكون عند الضرورات.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية.

                                                                                                                                                                                                                                      و"بنورهم" متعلق بـ "ذهب"، والباء فيها للتعدية، وهي مرادفة للهمزة في التعدية، هذا مذهب الجمهور، وزعم أبو العباس أن بينهما فرقا، وهو أن الباء يلزم معها مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفعل الذي فعله به والهمزة لا يلزم فيها ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا قلت: "ذهبت بزيد" فلا بد أن تكون قد صاحبته في الذهاب فذهبت معه، وإذا قلت: "أذهبته" جاز أن يكون قد صحبته وألا يكون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد الجمهور على المبرد بهذه الآية لأن مصاحبته تعالى لهم في الذهاب مستحيلة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن قد أجاب أبو الحسن ابن عصفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون تعالى قد أسند إلى نفسه ذهابا يليق به كما أسند إلى نفسه المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يرد عليه بقول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 163 ]

                                                                                                                                                                                                                                      219 - ديار التي كانت ونحن على منى     تحل بنا لولا نجاء الركائب



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تجعلنا حلالا بعد أن كنا محرمين بالحج، ولم تكن هي محرمة حتى تصاحبهم في الحل، وكذا قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      220 - كميت يزل اللبد عن حال متنه     كما زلت الصفواء بالمتنزل



                                                                                                                                                                                                                                      الصفو: الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "بنورهم" عائد على معنى "الذي" كما تقدم، وقال بعضهم: هو عائد على مضاف محذوف تقديره: كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير قال: "حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأن المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المضاف وهو "أصحاب" لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على منع تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضا فإن المشبه والمشبه به إنما هو القصتان، فلم يقع التشبيه إلا بين قصتين إحداهما مضافة إلى جمع والأخرى إلى مفرد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وتركهم في ظلمات لا يبصرون هذه جملة معطوفة على قوله "ذهب الله".

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الترك: التخلية، ويراد به التصيير، فيتعدى لاثنين على الصحيح، كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      221 - أمرتك الخير فافعل ما أمرت به     فقد تركتك ذا مال وذا نشب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 164 ] فإن قلنا: هو متعد لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني "في ظلمات" و"لا يبصرون" حال، وهي حال مؤكدة لأن من كان في ظلمة فهو لا يبصر، وصاحب الحال: إما الضمير المنصوب أو المرفوع المستكن في الجار والمجرور.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز أن يكون "في ظلمات" حالا، و"لا يبصرون" هو المفعول الثاني لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، وأنت إذا جعلت "في ظلمات" حالا فهم منه عدم الإبصار، فلم يفد قولك بعد ذلك "لا يبصرون" إلا التأكيد، لكن التأكيد ليس من شأن الإخبار، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات، ويؤيد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      222 - إذا ما بكى من خلفها انصرفت له     بشق وشق عندنا لم يحول



                                                                                                                                                                                                                                      أعربوا "شق" مبتدأ و"عندنا" خبره، و"لم يحول" جملة حالية مؤكدة، قالوا: وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأنه موضع تفصيل، وأبوا أن يجعلوا "لم يحول" خبرا، و"عندنا" صفة لشق مسوغا للابتداء به، قالوا: لأنه فهم معناه من قوله: "عندنا" لأنه إذا كان عنده علم منه أنه لم يحول، وقد أعربه أبو البقاء كذلك، وهو مردود بما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز إذا جعلنا "لا يبصرون" هو المفعول الثاني أن يتعلق "في ظلمات" به أو بـ "تركهم"، التقدير: "وتركهم لا يبصرون في ظلمات".

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان "ترك" متعديا لواحد كان "في ظلمات" متعلقا بترك، و"لا يبصرون" حال مؤكدة، ويجوز أن يكون "في ظلمات" حالا من الضمير المنصوب في "تركهم"، فيتعلق بمحذوف و"لا يبصرون" حال أيضا: إما من الضمير المنصوب في "تركهم" [ ص: 165 ] فيكون له حالان ويجري فيه الخلاف المتقدم، وإما من الضمير المرفوع المستكن في الجار والمجرور قبله فتكون حالين متداخلتين.

                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية