الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (15) قوله تعالى: الله يستهزئ بهم : "الله" رفع بالابتداء و"يستهزئ" جملة فعلية في محل خبره، و"بهم" متعلق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها، "ويمدهم" في محل رفع - أيضا - لعطفه على الخبر وهو يستهزئ، و"يعمهون" في محل الحال من المفعول في "يمدهم" أو من الضمير في "طغيانهم" وجاءت الحال من المضاف إليه لأن المضاف مصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      و "في طغيانهم" يحتمل أن يتعلق بـ(يمدهم) أو بـ(يعمهون) ، وقدم عليه، إلا إذا جعل "يعمهون" حالا من الضمير في "طغيانهم" فلا يتعلق به حينئذ لفساد المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع أبو البقاء أن يكون "في طغيانهم" و"يعمهون" حالين من الضمير في "يمدهم"، معللا ذلك بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع من ذلك، وأما من يجيز تعدد الحال مع عدم تعدد صاحبها فيجيز ذلك; إلا أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع ذلك لا لما ذكره أبو البقاء ، بل لأن المعنى يأبى جعل هذا الجار والمجرور حالا، إذ المعنى منصب على أنه متعلق بأحد الفعلين، أعني يمدهم أو يعمهون، لا بمحذوف على أنه حال.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 149 ] والمشهور فتح الياء من "يمدهم"، وقرئ شاذا بضمها، فقيل: الثلاثي والرباعي بمعنى واحد، تقول: مده وأمده بكذا، وقيل: مده إذا زاده من جنسه، وأمده إذا زاده من غير جنسه، وقيل: مده في الشر، كقوله تعالى:ونمد له من العذاب مدا وأمده في الخير، كقوله: ويمددكم بأموال وبنين وأمددناهم بفاكهة ولحم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرئ: وإخوانهم يمدونهم في الغي باللغتين، ويمكن أن يجاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم الياء أنه بمنزلة قوله تعالى: فبشرهم بعذاب فسنيسره للعسرى يعني أبو علي - رحمه الله تعالى - بذلك أنه على سبيل التهكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت: كفاك دليلا على ذلك قراءة ابن كثير وابن محيصن: "ويمدهم" وقراءة نافع "وإخوانهم يمدونهم" على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له "باللام" كأملى له.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 150 ] والاستهزاء لغة: السخرية واللعب: يقال: هزئ به، واستهزأ قال:


                                                                                                                                                                                                                                      199 - قد هزئت مني أم طيسله قالت: أراه معدما لا مال له



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أصله الانتقام، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      200 - قد استهزؤوا منا بألفي مدجج     سراتهم وسط الصحاصح جثم



                                                                                                                                                                                                                                      فعلى هذا القول الثاني نسبة الاستهزاء إليه تعالى على ظاهرها، وأما على القول الأول فلا بد من تأويل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فقيل: المعنى يجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب ليزدوج الكلام، ومنه: وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عمرو ابن كلثوم:


                                                                                                                                                                                                                                      201 - ألا لا يجهلن أحد علينا     فنجهل فوق جهل الجاهلينا



                                                                                                                                                                                                                                      وأصل المدد: الزيادة.

                                                                                                                                                                                                                                      والطغيان: مصدر طغى يطغى طغيانا وطغيانا بكسر الطاء وضمها، ولام طغى قيل: ياء وقيل: واو، يقال: طغيت وطغوت، وأصل المادة مجاوزة الحد، ومنه: طغى الماء.

                                                                                                                                                                                                                                      والعمه: التردد والتحير، وهو قريب من العمى، إلا أن بينهما عموما وخصوصا؛ لأن العمى يطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عمه يعمه عمها وعمهانا فهو عمه وعامه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 151 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية