الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (44) قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر : الهمزة للإنكار والتوبيخ أو للتعجب من حالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أمر" يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر، وقد يحذف، وقد جمع الشاعر بين الأمرين في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      423 - أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب



                                                                                                                                                                                                                                      فـ(الناس) مفعول أول، وبالبر مفعول ثان.

                                                                                                                                                                                                                                      والبر: سعة الخير من الصلة والطاعة، ومنه البر والبرية لسعتهما، والفعل [منه] : بر يبر على فعل يفعل كعلم يعلم، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      424 - لا هم رب إن بكرا دونكا     يبرك الناس ويفجرونكا



                                                                                                                                                                                                                                      [أي: يطيعونك، والبر أيضا: ولد الثعلب، وسوق الغنم، ومنه قولهم: "لا يعرف الهر من البر" أي: لا يعرف دعاءها من سوقها، والبر - أيضا - الفؤاد، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      425 - أكون مكان البر منه ودونه     وأجعل مالي دونه وأوامره



                                                                                                                                                                                                                                      والبر بالفتح الإجلال والتعظيم، ومنه: ولد بر بوالديه، أي: يعظمهما، والله تعالى بر لسعة خيره على خلقه] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وتنسون" داخل في حيز الإنكار، وأصل تنسون: تنسيون، فأعل [ ص: 328 ] بحذف الياء بعد سكونها، وقد تقدم في اشتروا فوزنه تفعون، والنسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحاصل بعد حصول العلم، وقد يطلق على الترك، ومنه: نسوا الله فنسيهم وقد يدخله التعليق حملا على نقيضه، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      426 - ومن أنتم إنا نسينا من انتم     وريحكم من أي ريح الأعاصر



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأنتم تتلون الكتاب مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، العامل فيها "تنسون".

                                                                                                                                                                                                                                      والتلاوة: التتابع، ومنه تلاوة القرآن؛ لأن القارئ يتبع كلماته بعضها ببعض، ومنه: والقمر إذا تلاها وأصل تتلون: تتلوون بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت فوزنه: تفعون.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أفلا تعقلون الهمزة للإنكار أيضا، وهي في نية التأخير عن الفاء لأنها حرف عطف، وكذا تتقدم - أيضا - على الواو وثم نحو: أولا يعلمون أثم إذا ما وقع والنية بها التأخير، وما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدم عليه تقول: ما قام زيد بل أقعد؟ هذا مذهب الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم [ ص: 329 ] الزمخشري أن الهمزة في موضعها غير منوي بها التأخير، ويقدر قبل الفاء والواو وثم فعلا عطف عليه ما بعده، فيقدر هنا: أتغفلون فلا تعقلون، وكذا: أفلم يروا أي: أعموا فلم يروا، وقد خالف هذا الأصل، ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومفعول "تعقلون" غير مراد؛ لأن المعنى: أفلا يكون منكم [عقل] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: تقديره: أفلا تعقلون قبح ما ارتكبتم من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والعقل: الإدراك المانع من الخطأ، وأصله المنع: ومنه: العقال؛ لأنه يمنع البعير، وعقل الدية؛ لأنه يمنع من قتل الجاني، والعقل - أيضا - ثوب موشى، قال علقمة:


                                                                                                                                                                                                                                      427 - عقلا ورقما تظل الطير تتبعه     كأنه من دم الأجواف مدموم



                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن فارس: "ما كان منقوشا طولا فهو عقل، أو مستديرا فهو رقم" ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: واستعينوا بالصبر هذه الجملة الأمرية عطف على ما قبلها من الأوامر، ولكن اعترض بينها بهذه الجمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل "استعينوا" استعونوا ففعل [ ص: 330 ] به ما فعل في نستعين وقد تقدم تحقيقه ومعناه.

                                                                                                                                                                                                                                      "وبالصبر" متعلق به والباء للاستعانة أو للسببية، والمستعان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليها، و"استعان" يتعدى بنفسه نحو: وإياك نستعين .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون الباء للحال أي: ملتبسين بالصبر، والظاهر أنه يتعدى بنفسه وبالباء تقول: [استعنت الله، واستعنت بالله] وقد تقدم أن السين للطلب.

                                                                                                                                                                                                                                      والصبر: الحبس على المكروه، ومنه: "قتل فلان صبرا"، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      428 - فصبرا في مجال الموت صبرا     فما نيل الخلود بمستطاع



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين إن واسمها وخبرها، والضمير في "إنها" قيل: يعود على الصلاة وإن تقدم شيئان؛ لأنها أغلب منه وأهم، وهو نظير قوله: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها أعاد الضمير على التجارة لأنها أهم وأغلب، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن العطف بـ "أو" فيجب الإفراد، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشيئين فهو نظيرها من هذه الجهة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو: هو أقرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: على العبادة المدلول عليها بالصبر والصلاة، وقيل: هو [ ص: 331 ] عائد على الصبر والصلاة، وإن كان بلفظ المفرد، وهذا ليس بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وتقديره: وإنه لكبير، نحو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      429 - إن شرخ الشباب والشعر الأسـ     ـود ما لم يعاص كان جنونا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إلا على الخاشعين استثناء مفرع، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتا؛ لأنه في قوة المنفي، أي: لا تسهل ولا تخف إلا على هؤلاء، فـ"على الخاشعين" متعلق بـ "كبيرة" نحو: "كبر علي هذا" أي: عظم وشق.

                                                                                                                                                                                                                                      والخشوع: الخضوع، وأصله اللين والسهولة، ومنه "الخشعة" للرملة المتطامنة، وفي الحديث: "كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد" أي: كانت الأرض لينة، وقال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      430 - رماد ككحل العين لأيا أبينه     ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع



                                                                                                                                                                                                                                      أي: عليه أثر الذل، وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع، فقال: الخضوع في البدن خاصة، والخشوع في البدن والصوت والبصر فهو أعم منه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية