الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (87) قوله تعالى: وقفينا من بعده بالرسل التضعيف في "قفينا" ليس للتعدية، إذ لو كان كذلك لتعدى إلى اثنين؛ لأنه قبل التضعيف يتعدى لواحد، نحو: قفوت زيدا، ولكنه ضمن معنى "جئنا" كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرسل.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: يجوز أن يكون متعديا لاثنين على معنى أن الأول محذوف والثاني "بالرسل" والباء فيه زائدة تقريره: (وقفينا من بعده الرسل).

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 493 ] فالجواب أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التقدير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقفينا أصله: قفونا، ولكن لما وقعت الواو رابعة قلبت ياء، واشتقاقه من قفوته إذا اتبعت قفاه، ثم اتسع فيه، فأطلق على كل تابع، وإن بعد زمان التابع من زمان المتبوع، وقال أمية:


                                                                                                                                                                                                                                      601 - قالت لأخت له قصيه عن جنب وكيف تقفو ولا سهل ولا جبل



                                                                                                                                                                                                                                      والقفا مؤخر العنق، ويقال له: القافية أيضا، ومنه قافية الشعر؛ لأنها تتلو بناء الكلام وآخره، ومعنى قفينا أي: أتبعنا كقوله: ثم أرسلنا رسلنا تترى .

                                                                                                                                                                                                                                      و من بعده متعلق به، وكذلك "بالرسل"، وهو جمع رسول بمعنى مرسل، وفعل غير مقيس في فعول بمعنى مفعول، وسكون العين لغة الحجاز وبها قرأ يحيى والحسن، والضم لغة تميم، وقد قرأ السبعة بلغة تميم إلا أبا عمرو فيما أضيف إلى "نا" أو "كم" أو "هم" فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "عيسى" علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقد تكلم النحويون في وزنه واشتقاقه على تقدير كونه عربي الوضع، فقال سيبويه : "وزنه فعلى والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء معزى"، يعني بالياء الألف، سماها ياء لكتابتها بالياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي : "ألفه ليست للتأنيث كذكرى، بدلالة صرفهم له في النكرة".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عثمان بن سعيد الصيرفي: "وزنه فعلل" فالألف عنده [ ص: 494 ] أصلية بمعنى أنها منقلبة عن أصل.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد ذلك عليه ابن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلين في بنات الأربعة، فمن قال إن "عيسى" مشتق من العيس وهو بياض تخالطه شقرة كأبي البقاء وغيره ليس بمصيب لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "وقيل: عيسى بالسريانية: أيسوع".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ابن مريم" عطف بيان أو بدل، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى لأن "ابن مريم" جرى مجرى العلم له.

                                                                                                                                                                                                                                      وللوصف بابن أحكام تخصه ستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وتقدم اشتقاق "ابن" وأصله.

                                                                                                                                                                                                                                      ومريم أصله بالسريانية صفة بمعنى الخادم ثم سمي به فلذلك لم ينصرف، وفي لسان العرب هي المرأة التي تكثر مخالطة الرجال كالزير من الرجال وهو الذي يكثر مخالطتهن، قال رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      602 - قلت لزير لم تصله مريمه      . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وياء "الزير" عن واو؛ لأنه من زار يزور فقلبت للكسرة قبلها كالريح، فصار لفظ مريم مشتركا بين اللسانين، ووزنه عند النحويين مفعل لا فعيل، قال الزمخشري : "لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت في [ ص: 495 ] نحو: عثير وعليب".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أثبت بعضهم فعيلا وجعل منه نحو: "ضميد" اسم مكان و"مدين" على القول بأصالة ميمه و"ضهيا" بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض، أو لا ثدي لها؛ لأنها مشتقة من ضاهأت أي شابهت؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك، ويجوز مدها قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جني: "وأما ضميد وعثير فمصنوعان" فلا دلالة فيهما على ثبوت فعيل، وصحة الياء في مريم على خلاف القياس، إذ كان من حقها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء ثم قلب الياء ألفا نحو: مباع من البيع، ولكنه شذ مزيد ومدين، وقال أبو البقاء : "ومريم علم أعجمي ولو كان مشتقا من رام يريم لكان مريما بسكون الياء، وقد جاء في الأعلام بفتح الياء نحو مزيد وهو على خلاف القياس".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وأيدناه معطوف على قوله: وآتينا عيسى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور أيدناه على فعلناه، وقرأ مجاهد وابن محيصن - ويروى عن أبي عمرو -: "آيدناه" على: أفعلناه، والأصل في أأيد بهمزتين، ثانيتهما ساكنة فوجب إبدال الثانية ألفا نحو: أأمن وبابه، وصححت العين وهي الياء كما صحت في "أغيلت" و"أغيمت"، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب نحو: ما أبين [ ص: 496 ] وأطول.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي عن أبي زيد أن تصحيح "أغيلت" مقيس.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: لم لا أعل آيدناه كما أعل نحو: أبعناه حتى لا يلزم حمله على الشاذ؟ فالجواب: أنه لو أعل بأن ألقيت حركة العين على الفاء فيلتقي ساكنان العين واللام فتحذف العين لالتقاء الساكنين، فتجتمع همزتان مفتوحتان فيجب قلب الثانية واوا نحو "أوادم"، فتتحرك الواو بعد فتحة فتقلب ألفا فيصير اللفظ: أادناه لأدى ذلك إلى إعلال الفاء والعين، فلما كان إعلاله يؤدي إلى ذلك رفض بخلاف أبعناه وأقمناه، فإنه ليس فيه إلا إعلال العين فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : فإن قلت: فلم لم تحذف الياء التي هي عين كما حذفت من نحو: أسلناه من سال يسال؟ قيل: لو فعلوا ذلك لتوالى إعلالان: أحدهما قلب الهمزة الثانية ألفا ثم حذف الألف المبدلة من الياء لسكونها وسكون الألف قبلها، فكان يصير اللفظ آدناه فكانت تحذف الفاء والعين وليس "أسلناه" كذلك؛ لأن هناك حذف العين وحدها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري في المائدة: "آيدتك على أفعلتك" وقال ابن عطية : "على فاعلتك" ثم قال: "ويظهر أن الأصل في القراءتين: أفعلتك ثم اختلف الإعلال"، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يظهر أن "أيد" فعل لمجيء مضارعه على يؤيد بالتشديد، ولو كان أيد بالتشديد بزنة أفعل لكان مضارعه يؤيد كيؤمن من آمن، وأما آيد يعني بالمد فيحتاج في نقل مضارعه إلى سماع، فإن سمع يؤايد كيقاتل فهو فاعل، فإن سمع يؤيد كيكرم فآيد أفعل، ذكر ذلك جميعه الشيخ في [ ص: 497 ] المائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: "إنه لم يظهر كلام ابن عطية في قوله: "اختلف الإعلال" وهو صحيح، إلا أن قوله: الذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور فعل لا أفعل إلى آخره" فيه نظر؛ لأنه يشعر بجواز شيء آخر وذلك متعذر، كيف يتوهم أن أيد بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة أفعل، هذا ما لا يقع.

                                                                                                                                                                                                                                      والأيد: القوة، قال عبد المطلب:


                                                                                                                                                                                                                                      603 - الحمد لله الأعز الأكرم     أيدنا يوم زحوف الأشرم



                                                                                                                                                                                                                                      والصحيح أن فعل وأفعل هنا بمعنى واحد وهو قويناه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد فرق بعضهم بينهما فقال: "أما المد فمعناه القوة، وأما القصر فمعناه التأييد والنصر"، وهذا في الحقيقة ليس بفرق، وقد أبدلت العرب في آيد على أفعل الياء جيما فقالت: آجده أي قواه، قال الزمخشري : يقال: "الحمد لله الذي آجدني بعد ضعف وأوجدني بعد فقر"، وهذا كما أبدلوا من يائه جيما فقالوا: لا أفعل ذلك جد الدهر أي: يد الدهر، وهو إبدال لا يطرد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بروح القدس متعلق بأيدناه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير: "القدس" بإسكان الدال، والباقون بضمها، وهما لغتان: الضم للحجاز، والإسكان لتميم، وقد تقدم ذلك، وقرأ أبو حيوة: "القدوس" بواو، وفيه لغة فتح القاف والدال ومعناه الطهارة أو البركة كما تقدم عند قوله: "ونقدس لك".

                                                                                                                                                                                                                                      والروح في الأصل: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان قاله الراغب ، [ ص: 498 ] والمراد به جبريل عليه السلام لقول حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      604 - وجبريل رسول الله فينا     وروح القدس ليس له كفاء



                                                                                                                                                                                                                                      سمي بذلك لأن بسببه حياة القلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أفكلما جاءكم رسول الهمزة هنا للتوضيح والتقريع، والفاء للعطف عطفت هذه الجملة على ما قبلها، واعتني بحرف الاستفهام فقدم، وقد مر تحقيق ذلك، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف جملة ليعطف عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول، ويجوز أن يقدر قبلها محذوف أي: ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول، وقد تقدم الكلام في "كلما" عند قوله: كلما أضاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والناصب لها هنا "استكبرتم"، و"رسول" فعول بمعنى مفعول أي مرسل، وكون فعول بمعنى المفعول قليل، جاء منه الركوب والحلوب أي: المركوب والمحلوب، ويكون مصدرا بمعنى الرسالة قاله الزمخشري ، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      605 - لقد كذب الواشون ما فهت عندهم     بسر ولا أرسلتهم برسول



                                                                                                                                                                                                                                      أي: برسالة، ومنه عنده: إنا رسول رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بما لا تهوى أنفسكم متعلق بقوله "جاءكم"، و"جاء" يتعدى بنفسه تارة كهذه الآية، وبحرف الجر أخرى نحو: جئت إليه، و"ما" موصولة [ ص: 499 ] بمعنى الذي، والعائد محذوف لاستكمال الشروط، والتقدير: بما لا تهواه، و"تهوى" مضارع هوي بكسر العين ولامه من ياء لأن عينه واو، وباب طويت وشويت أكثر من باب قوة وحوة، ولا دليل في "هوي" لانكسار العين وهو مثل "شقي" من الشقاوة، وقولهم في تثنية مصدره هويان أدل دليل على ذلك، ومعنى تهوى: تحب وتختار.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الهوى: الميل، سمي بذلك؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار، ولذلك لا يستعمل غالبا إلا فيما لا خير فيه، وقد يستعمل فيما هو خير، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى بدر: "فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت".

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عائشة رضي الله عنها: "والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" وجمعه أهواء، قال تعالى: بأهوائهم ولا تجمع على أهوية وإن كان قد جاء: ندى وأندية قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      606 - في ليلة من جمادى ذات أندية     لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا



                                                                                                                                                                                                                                      وأما "هوى يهوي" بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السقوط، والهوي بفتح الهاء ذهاب في انحدار، والهوي ذهاب في صعود، وسيأتي تحقيق كل ذلك، وأسند الفعل إلى الأنفس دون المخاطب فلم يقل: "بما لا تهوون" تنبيها أن النفس يسند إليها الفعل السيئ غالبا نحو: [ ص: 500 ] إن النفس لأمارة بالسوء بل سولت لكم أنفسكم فطوعت له نفسه واستكبر بمعنى تكبر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ففريقا كذبتم الفاء عاطفة جملة "كذبتم" على "استكبرتم" و"فريقا" مفعول مقدم قدم لتتفق رؤوس الآي، وكذا وفريقا تقتلون ولا بد من محذوف أي: فريقا منهم، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب ومبادرة آخرين بالقتل، وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه مشترك بين المقتول وغيره، فإن المقتولين قد كذبوهم أيضا، وإنما لم يصرح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      وجيء بـ"تقتلون" مضارعا: إما لكونه مستقبلا لأنهم كانوا يرومون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي والفواصل، وإما أن يراد به الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز الراغب أن يكون ففريقا كذبتم معطوفا على قوله "وأيدناه" ويكون "أفكلما" مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، والأظهر هو الأول، وإن كان ما قاله محتملا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية