الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                320 321 322 ص: قالوا: فهذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، فقيل لهم: هذه الآثار إنما تخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه، والآثار الأول تخبر عما يجب وما لا يجب; فهي أولى، فكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى أن الآثار التي رويناها في الفصل الأول من هذا الباب على ضربين: فضرب منهما "الماء من الماء" لا غير.

                                                وضرب منهما: أن رسول الله - عليه السلام - قال: "لا غسل على من أكسل حتى ينزل" فأما ما كان من ذلك فيه ذكر "الماء من الماء" فإن ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روي عنه في ذلك: أن مراد رسول الله - عليه السلام -[به قد] كان غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى.

                                                [ ص: 489 ] حدثنا فهد قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا شريك ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله: " الماء من الماء; إنما ذلك في الاحتلام إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل; فلا غسل عليه". .

                                                فهذا ابن عباس قد أخبر أن وجهه غير الوجه الذي حمله عليه أهل المقالة الأولى; فضاد قوله قولهم.

                                                وأما ما روي فيما بين فيه الأمر، وأخبر فيه بالقصد وأنه لا غسل [عليه] في ذلك حتى يكون الماء، فإنه قد روي عن النبي - عليه السلام - خلاف ذلك.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: " إذا قعد بين شعبها الأربع ثم اجتهد، فقد وجب الغسل". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قالت الآخرون القائلون بوجوب الغسل بالإيلاج مطلقا.

                                                "فهذه الآثار" أراد بها التي رويت عن عائشة - رضي الله عنها - تخبر صريحا عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، فثبت أنبمجرد الإيلاج يجب الغسل .

                                                قوله: "فقيل لهم ... " إلى آخره، اعتراض على أهل المقالة الثانية، تحريره أن يقال: ما ذكرتم من الآثار إنما تخبر عن فعل رسول الله - عليه السلام - وقد يجوز أن يكون - عليه السلام - إنما كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب، فلا يتم الاستدلال بها على ما ادعيتم، وأما الآثار الأولى فإنها تخبر صريحا عما يجب وعما لا يجب، فتكون هذه أولى.

                                                [ ص: 490 ] قوله: "فكان من الحجة" ... إلى آخره، جواب عن الاعتراض المذكور، ملخصه: أن آثاركم على قسمين:

                                                أحدهما: المذكور فيه: "الماء من الماء" فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روي عنه أن مراد رسول الله - عليه السلام - من هذا هو أن يكون في الاحتلام، فهذا القول منه يضاد قولهم فلا تبقى لهم حجة.

                                                والآخر: ما بين فيه الأمر، وأنه لا يجب الغسل في ذلك إلا بالإنزال، فهذا أيضا يخالفه ما روي عن النبي - عليه السلام - من قوله: "إذا قعد بين شعبها الأربع، وجهدها فقد وجب الغسل" . فلا تبقى لهم حجة، فالقسم الأول ليس فيه النسخ، والثاني فيه النسخ، ومنهم من أثبت النسخ في القسمين جميعا.

                                                ثم إسناد الحديث الأول جيد حسن; لأن رجاله ثقات.

                                                وأبو غسان اسمه مالك بن إسماعيل الكوفي ، شيخ البخاري .

                                                وداود هو ابن أبي عوف أبو الجحاف ، وثقه ابن معين

                                                وأخرجه الترمذي : عن علي بن حجر ، عن شريك ، عن أبي الجحاف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: "إنما الماء من الماء في الاحتلام" .

                                                وإسناد الحديث الثاني صحيح، وأبو رافع اسمه نفيع الصائغ .

                                                وأخرجه النسائي : عن إبراهيم بن يعقوب ، عن عبد الله بن يوسف ، عن عيسى بن يونس ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه سواء.

                                                وأخرجه البخاري : عن معاذ بن فضالة ، عن هشام ، عن قتادة ، عن الحسن ، [ ص: 491 ] عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها; فقد وجب الغسل" .

                                                وأخرجه مسلم : عن زهير بن حرب (وآخرين) عن معاذ بن هشام ، عن أبيه، عن قتادة إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم ، عن هشام وشعبة ، عن قتادة ... إلى آخره، ولفظه: "إذا قعد بين شعبها الأربع، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل" .

                                                وأخرجه ابن ماجه : عن ابن أبي شيبة ، عن الفضل بن دكين ، عن هشام الدستوائي ، عن قتادة ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "بين شعبها" بضم الشين: النواحي، جمع شعبة ، ويروى "أشعبها" جمع شعب . وقال ابن الأثير : الشعبة الطائفة من كل شيء والقطعة منه.

                                                واختلفوا في المراد بالشعب الأربع، فقيل: هي اليدان والرجلان.

                                                وقيل: الرجلان والفخذان. وقيل: الرجلان والشفران.

                                                واختار القاضي عياض أن المراد: شعب الفرج الأربع، أي نواحيه الأربع، وكأنه يحوم على طلبه الحقيقة الموجبة للغسل.

                                                والأقرب أن يكون المراد: اليدين والرجلين، أو الرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك، يكتفى بما ذكر عن التصريح، وإنما رجح هذا لأنه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينها، والضمير يرجع إلى المرأة وإن لم يمض ذكرها؛ لدلالة السياق عليه كما في قوله تعالى: حتى توارت بالحجاب

                                                [ ص: 492 ] قوله: "ثم جهدها" بفتح الهاء، أي بلغ جهده فيها. وقيل: بلغ مشقتها. وقيل: كدها بحركته.

                                                قوله: "وألزق الختان" أي: موضع الختان; لأن الختان اسم للفعل، أي ألزق موضع الختان بموضع الختان منها.




                                                الخدمات العلمية