الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم ، وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد مع ابن طاهر ، والزجاج مع ابن وهب ، ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان حتى قال ابن المبارك : لولا فلان وفلان ما اتجرت ، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيرهم ، ثم قال ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة فيندفع الزمان ، وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم فطلب لم يعط ، فأولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه ، والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل .

وقد قال منصور بن المعتمر : إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي ، وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس فيخرجون إلى جبل فيموتون فيه . فإذا اتفق للعالم عائلة ، وحاجات وكفت أكف الناس عنه ، ومنعته أنفته من الذل هلك ، فالأولى لمثل هذا ( العالم ) في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسب إن قدر عليه ، وإن أمكنه نسخ بأجرة ، ويدبر ما يحصل له ، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل .

وقد يتفق للعالم مرفق ، فينفق ، ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم ، فيخرج ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر ، أو من الذل ما يكون الموت دونه .

[ ص: 220 ] فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة ، بل يصور كل ما يجوز وقوعه .

وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب ، فكم من مخاصم سب وشتم وطلق ، فلما أفاق ندم ، وقد كان يوسف بن أسباط يزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه ، وقد تزهد خلق كثير ، فأخرجوا ما بأيديهم ، ثم احتاجوا فدخلوا في مكروهات ، وكان الشبلي يقدر على خمسين ألفا فتزهد ، وفرقها فنزل به قوم من الصوفية فبعث إلى بعض أرباب الدنيا يطلب منه فقال له يا شبلي : اطلب من الله عز وجل ، فقال له : أنا أطلب من الله عز وجل ، وأطلب الدنيا من خسيس مثلك ، فبعث إليه مائة دينار .

وقال ابن عقيل : إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي الحرام ، وقد تزهد أبو حامد الطوسي ، وأقام سنين ببيت المقدس ، ثم عاد إلى وطنه فبنى دارا كبيرة وغرس بستانا . فمثل هذا المتزهد المخرج لماله كمعير لباسه ، كمثل ماء عمل له سكر فإنه يمنعه من الجريان ، ثم يعمل في باطن السكر إلى أن ينقب ، ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى شبانا قد تنسكوا يقول : الموت الموت جاءهم ، خوفا من تغيير حالهم . وكذلك مخرج المال في حال الغنى إذا لم يحسب وقوع الفقر .

وقد رأينا أبا الحسن الغزنوي وقد بنى له رباطا ببغداد ووقفت عليه قرية فكان يقول : يدخل لي في كل سنة ثلاثة آلاف وست مائة دينار فألف ومائتان لي ولأولادي ، وألف ومائتان لأهل الرباط ، وألف ومائتان للمجلس ، فكان يعطي العلماء والقراء والزهاد ولا يقبل منه أحد حتى إنه أفطر في رمضان عند الوزير أبي القاسم الزيني ، فبعث إليه خلعة قبل العيد وهذه عادتهم فيمن يفطر عندهم فحدثني الحاجب أنه حملها إليه فقال : لا أقبل ، قال : فقبحت له هذا وبالغت حتى قبل على مضض .

وكان يقول : عرضت علي خمسة آلاف دينار فدفعتها بهذه الأصابع الخمس ، وقلت : لا حاجة لي فيها ، وكان يظن دوام ما هو فيه فاتفق موت السلطان [ ص: 221 ] مسعود فأحضر باب الحاكم ووكل به وأخذت منه القرية فافتقر ، فحدثني محاسن بن حماد قال : كان بين الغزنوي وبين عبد الرحيم الملقب شيخ الشيوخ وحشة .

فلما افتقر الغزنوي بعث معي إليه بمائة دينار ورقعة بكارات دقيق فجئت بها إليه ، فقال : لا أقبل ، فردها عليه ، ثم التفت إلي لانبساط كان بيننا ، فقال لي : أغنني أنت بعشرة دنانير وخمس كارات ، فالصبيان جياع ، وكان يقول : من الناس من يحب الموت فمات قريبا . وقد كان يمكنه أن يشتري من دجلة قرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية