الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2132 - مسألة : جنين الأمة من سيدها ؟ قال علي : لا خلاف في أن جنين الأمة من سيدها الحر مثل جنين الحرة ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلفوا في جنين الأمة من غير سيدها الحر : فقالت طائفة : فيه عشر قيمة أمه - كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا محمد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري ، قال في جنين الأمة عشر ثمن أمه - وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحابهم ، وأحمد ، وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه من ثمن أمه كقدر ما في جنين الحرة من دية أمه - كما حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، قال : جنين الأمة في ثمن أمه بقدر جنين الحرة في دية أمه ، قال : فلو أعتق رجل جنين وليدته ثم قتلت الوليدة ؟ قال : يعقل الوليدة ويعقل جنينها عبدا ، أيما كان تمام عتقه أن يولد ويستهل صارخا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه نصف عشر ثمن أمه ، كما نا محمد بن سعيد بن نبات ، نا أحمد بن عبد البصير ، نا قاسم أصبغ ، نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن سعيد القطان ، كلاهما عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي ، قال في جنين الأمة : نصف عشر ثمن أمه - وهو قول ابن أبي ليلى ، والحجاج بن أرطاة - وهو أيضا قول قتادة .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه نصف عشر قيمته إن خرج ميتا ، فإن خرج حيا فثمنه [ ص: 244 ] كله - وهو قول سفيان الثوري ، رويناه من طريق عبد الرزاق - وهو قول الحسن بن حي .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وزفر بن الهذيل : إن كان جنين الأمة ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيا - وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية - قال زفر : وعليه مع ذلك ما نقص أمه - وقال أبو يوسف : لا شيء في جنين الأمة إلا أن يكون نقص أمه ، ففيه ما نقصها .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه عشرة دنانير : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر ، وابن جريج ، قال معمر عن الزهري ، وقال ابن جريج عن إسماعيل بن أمية - ثم اتفق الزهري ، وإسماعيل ، كلاهما عن سعيد بن المسيب ، قال : في جنين الأمة عشرة دنانير .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : فيه حكومة - كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان قال : ينظر ما بلغ ثمن جنين الحرة من جميع ثمنها ، فإن كانت عشرا أعطيت الأمة عشرة ، وإن كانت خمسا ، وإن كانت سبعا ، وإن كانت ثمنها - يعني : فكذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : في جنين الأمة غرة عبد أو أمة ، كما في جنين الحرة ولا فرق - : كما روينا قبل عن ابن سيرين ، وعروة ، ومجاهد ، وطاوس ، وشريح ، والشعبي ، فإنهم ذكروا الجنين وما فيه ، ولم يخصوا جنين حرة من أمة ، ولو كان عندهم في ذلك فرق لبينوه ؟ ومن ادعى أنهم أرادوا الحرة خاصة فقد كذب عليهم ، وحكى عنهم ما لم يقولوا ، ولا أخبروا به عن أنفسهم ، ومن حمل قولهم على ما قالوه فبحق واجب يدخل فيه جنين الأمة ، وغيره ، ولا فرق ، إذ هو مقتضى قولهم : ليس فيه إلا ما ينقصها فقط .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 245 ] قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في قول من رأى فيه عشر قيمة أمه - فلم نجد لهم حجة إلا أنهم قالوا : وجدنا الغرة المحكوم بها في جنين الهذلية وقوم بخمسين دينارا - وهو عشر دية أمه فوجب أن يكون في جنين الأمة عشر قيمة دية أمه أيضا لأن دية الأمة قيمتها ، حتى أن مالكا حمله هذا القياس على أن جعل في جنين الدابة عشر قيمتها - وفي بيضة النعامة على المحرم عشر البدنة .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فكان هذا الاحتجاج ساقطا ; لأن تقويم الغرة بخمسين دينارا أو بالدراهم خطأ لا يجوز ، لأنه لم يوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع - ولا صح عن صاحب .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول إبراهيم النخعي ، وقتادة : أن في جنين الأمة نصف عشر ثمن أمه ، لم نجد لهم متعلقا - فسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول سفيان والحسن بن حي فوجدناه أيضا لا حجة لهم أصلا - فسقط أيضا .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول أبي حنيفة ، وزفر ، ومحمد بن الحسن ؟ فوجدناهم يقولون : لما كانت الغرة في جنين الحرة مقدرة بخمسين دينارا كان ذلك نصف عشر ديته لو خرج حيا - وكان ذكرا - أو عشر ديتها - لو كانت أنثى - وخرجت حية ، فوجب في جنين الأمة مثل ذلك أيضا ; لأنه لو حيا فقتل لكانت فيه القيمة ؟ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به ، وهذا كله باطل على ما نذكر - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إن قولهم : لما كان ثمن الغرة في جنين الحرة خمسين دينارا وهو نصف عشر ديته ، لو خرج حيا - وكان ذكرا - وعشر ديتها ، لو خرجت حية - وكانت أنثى - فوجب أن يكون ما في جنين الأمة كذلك ، فباطل من وجوه : [ ص: 246 ] أولها - أنه قياس والقياس كله باطل .

                                                                                                                                                                                          الثاني - أنه لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل ; لأن تقويم الغرة بخمسين دينارا باطل ، لم يصح قط في قرآن ، ولا سنة ، ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فصار قياسهم هذا قياسا للخطأ على الخطأ .

                                                                                                                                                                                          والثالث - أنه لو صح لهم تقويم الغرة بخمسين دينارا فمن أين لهم أن المقصود في ذلك هو أن يكون نسبته من ديته ، أو من دية أمه ؟ ويقال لهم : من أين لكم هذا ؟ وهلا قلتم : إنها قيمة نافذة مؤقتة : كالغرة ولا فرق ؟ ولكن أبوا إلا الترديد من الدعاوى الفاسدة بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          والرابع - أن يعارض قياسهم بمثله ، فيقال لهم : ما الفرق بينكم وبين ما روي عن مالك ، والحسن : من أن الخمسين دينارا التي قومت بها الغرة في جنين الحرة إنما اعتبر بها من دية أمه ، لا من دية نفسه ؟ فقالوا : إن كان جنين الأمة - ذكرا أو أنثى - ففيه عشر قيمة أمه ، كما في جنين الحرة - ذكرا كان أو أنثى - عشر دية أمه ، فهل هاهنا إلا دعوى مقابلة بمثلها ؟ وتحكم بلا دليل ؟ ثم نظرنا في قول حماد بن أبي سليمان أن فيه حكما ، فوجدناه أيضا قولا عاريا من الأدلة ، فوجب تركه ، إذ ما لا دليل على صحته ، فهي دعوى ساقطة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول سعيد بن المسيب ، فوجدناه أيضا لا دليل على صحته ، فلم يجز القول به ; لأن الله تعالى يقول { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فمن لا برهان له فلا يجوز الأخذ بقوله .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول أبي يوسف ، وبعض أصحابنا : أنه لا شيء في جنين الأمة إلا ما نقصها ، فوجدناه أيضا قولا لا دليل على صحته ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين ما قد ذكرناه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فلما سقطت هذه الأقوال [ كلها ] وجب أن ننظر [ ص: 247 ] عند اختلاف القائلين بها ما افترض الله تعالى علينا إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ففعلنا .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا - ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : أنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال : استشار عمر بن الخطاب في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة ، فقال له عمر : ائتني بمن يشهد معك ؟ فشهد له محمد بن مسلمة .

                                                                                                                                                                                          وما ناه أحمد بن محمد عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر البحراني نا عثمان بن عمر نا يونس بن يزيد نا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : { اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : دية جنينها عبد أو أمة وقضى بالدية على عاقلتها وورثها ولدها . }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فحديث المغيرة ، ومحمد بن مسلمة عموم إملاص كل امرأة - وكذلك نص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة بأن دية جنينها عبد أو وليدة - ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن هذا إنما هو في جنين الحرة ، فلا يحل لأحد أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ما لم يقل ، ولا أن يخبر عنه بما لم يخبر به عن نفسه ، ومن فعل هذا فقد قال عليه ما لم يقل ، وهذا يوجب النار .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : إنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في جنين حرة ؟ قيل لهم : إنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في جنين هذلية لحيانية تسمى مليكة قتلتها ضرتها أم عفيف ، الفرق بينكم في دعواكم بذلك لأنه جنين حرة ، وبين من قال : بل لأنه جنين هذلية ؟ أو لأنه جنين امرأة تسمى مليكة ، أو لأن ضرتها قتلتها ، أو لأن القاتلة اسمها أم عفيف - هذا كله باطل وتخليط - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية