الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          . العين . قال أبو محمد : قد ذكرنا أن دية العين والعينين لم يأت إلا في صحيفة عمرو بن حزم ، وخبر رجل من آل عمر ، وخبر مكحول ، وطاوس وكلها لا يصح منها شيء ، لما ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى ما يسر الله عز وجل لذكره مما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ، وعن التابعين رحمة الله عليهم .

                                                                                                                                                                                          حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، ومعمر ، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال : في العين النصف .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : في العين نصف الدية ، أو عدل ذلك من الذهب أو الورق ، وفي عين المرأة نصف ديتها ، أو عدل ذلك من الذهب أو الورق .

                                                                                                                                                                                          وأما عين الأعور - ففي ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة عن أبي مجلز قال : إن رجلا سأل ابن عمر عن أعور فقئت عينه خطأ ؟ فقال عبد الله بن صفوان : قضى فيها عمر بالدية كاملة ، فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل ابن عمر ؟ فقال : ابن عمر يحدثك عن عمر وتسألني .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى حماد بن سلمة نا قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض أنه قال في رجل أعور فقأ عين صحيح العينين عمدا ؟ فقال : قضى فيها الأمير بالدية كاملة - يعني عثمان - لأنه لا يقتص من الأعور .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا [ ص: 31 ] ابن وهب عن ابن سمعان عن ابن عباس قال : دية عين الأعور ألف دينار .

                                                                                                                                                                                          وأخبرني مالك عن ابن شهاب أنه كان يقول : في عين الأعور الدية كاملة قال مالك : بلغني عن سليمان بن يسار أنه كان يقول ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال ابن وهب : وأخبرني يونس ، ومالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن مثله .

                                                                                                                                                                                          قال ابن وهب : وأخبرني عمر بن قيس ، ويزيد بن عياض ، وابن لهيعة قال عمر بن قيس : عن عطاء عن علي بن أبي طالب ، وقال ابن لهيعة : عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير ، وقال يزيد بن عياض : عن عبد الملك بن عبيد عن سعيد بن المسيب ، قالوا كلهم مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن وهب : أخبرني الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : السنة ، ورأي الصالحين : أن الأعور إذا فقئت عينه ثمن عين الأعور ألف دينار ، وأنه إذا فقأ الأعور عين صحيح العينين غرم له ألف دينار .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في عين الأعور ألف دينار قال معمر : وقال قتادة ، والزهري معا : إذا فقأ الأعور عين صحيح العينين عمدا أغرم ألف دينار ، وإذا فقأها خطأ أغرم خمسمائة دينار وقالالزهري في رجل في إحدى عينيه بياض فأصيبت عينه الصحيحة ، قال : نرى أن يزاد في عقل عينيه ما نقص من الأخرى التي لم تصب .

                                                                                                                                                                                          وبه يأخذ الحسن البصري ، ومالك ، والليث ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون : فيها نصف الدية : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد العزيز عن الحكم بن عتيبة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال { : في عين الأعور خمسون } .

                                                                                                                                                                                          وعن مسروق أنه قال : في عين الأعور نصاب ، أنا أدي قتيل الله فيها نصف الدية - وبه يقول الشعبي [ ص: 32 ] وعن عبد الله بن مغفل أنه سئل عن الرجل يفقأ عين الأعور قال : ما أنا فقأت عينه الأخرى فيها نصف الدية .

                                                                                                                                                                                          وعن عطاء بن أبي رباح قال : في عين الأعور نصف الدية ، [ وعن إبراهيم النخعي أنه قال في عين الأعور تفقأ عينه خطأ قال : نصف الدية ] .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قولنا في العين هو قولنا في السن سواء سواء ، وأنه إنما جاءت في دية العين بالخطأ آثار ، وقد تقصيناها - ولله الحمد - ليس منها شيء يصح .

                                                                                                                                                                                          وأما قول الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فإنما جاء ذلك عن عمر ، وعلي ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، وعن نفر من التابعين نحو العشرة ، ومثل هذا لا يجوز أن يقطع به على جميع الأمة إلا غافل ، أو مستسهل للكذب والقطع بما لا علم له به فإن صح إجماع متيقن في دية العين ، فنحن قائلون به ، وإلا فقد حصلنا على السلامة ، فالإجماع المتيقن في هذا بعيد ممتنع أن يوجد في مثل هذا ، لأن الإجماع حجة من حجج الله تعالى المتيقنة الظاهرة التي قد قطع الله تعالى بها العذر ، وأبان بها الحجة ، وحسم فيها العلة ، ومثل هذا لا يستتر على أهل البحث ، والحقائق لا تؤخذ بالدعاوى ، فإذ لا إجماع في ذلك فلا يجب في الخطأ شيء ، لقول الله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فأما قول مالك في أن في عين الأعور الدية فإنه وإن تعلق بما جاء وصح عن بعض الصحابة ، فإنه قد تناقض في القياس .

                                                                                                                                                                                          والعجب - أن قولا ينسبه بعض أصحابه إليه من أنه يرى أن القياس أقوى من خبر الواحد ، ثم هاهنا قد ترك القياس الذي لو صح قياس في العالم لكان هذا هو ذلك الذي يصح وهو أنه فرق بين سمع امرئ لا يسمع إلا بأذن واحدة ويد إنسان أقطع ورجل أقطع فلم ير في كل ذلك إلا نصف الدية ، ورأى في عين الأعور الدية كاملة ، وليس لهم أن يدعوا في هذا إجماعا ، لأن في هذا اختلافا سنذكره إن شاء الله تعالى [ ص: 33 ] في " باب يد الأقطع ، وسمع ذي الأذن الواحدة " وبالله تعالى نتأيد .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إنما قلنا ذلك ، لأن عين الأعور - هي بصره كله - فالواجب في ذلك ما يجب في البصر كله ؟ قلنا لهم : هذا يبطل عليكم من وجهين : أحدهما : أنه إن كان كما تقولون فيجب عليكم أن تقيدوه من عيني الصحيح معا ، لأنه بصر ببصر ، لا على قولكم وأنتم لا تقولون ذلك .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه يقال لكم : وسمع ذي الأذن الواحدة الصماء هو سمعه كله ، وهو له أنفع وأقوى ، وأقرب من تمام السمع من عين الأعور ، فإن الأعور لا يرى إلا من جهة واحدة فقط ، فإنما هو نصف بصره ، وكذلك يد الأقطع هي محل تصرفه ، ورجل الأقطع أيضا ، فاجعلوا في كل ذلك دية ، وأنتم لا تفعلون ذلك ؟

                                                                                                                                                                                          ووجه ثالث : وهو أنه لا يجب على أصلكم هذا أن تقيدوا ذا عينين فقأ إحداهما أعور فأنتم تقيدون من الأعور ، ولا إجماع في هذا ، فقد أقدتم بصرا كاملا بنصف بصر ؟ وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن عثمان بن سعيد عن قتادة عن أبي عياض : أن عثمان بن عفان قضى في رجل أعور فقأ عين صحيح قال : لا قود عليه وعليه دية عينه وقال سعيد بن المسيب : لا يقاد من الأعور وعليه دية كاملة وإن كان عمدا - وعن عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : الأعور يصيب عين إنسان عمدا أيقاد منه ؟ قال : ما أرى أن يقاد منه ، أرى له الدية وافية وعن عبد الرزاق نا ابن جريج عن محمد بن أبي عياض أن عمر ، وعثمان اجتمعا على أن الأعور إذا فقأ عين آخر فعليه مثل دية عينيه .

                                                                                                                                                                                          وقال علي بن أبي طالب : أقام الله تعالى القصاص في كتابه العين بالعين وقد علم هذا ، فعليه القصاص ، فإن الله تعالى لم يكن لينسى شيئا .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 34 ] قال أبو محمد : وأما الحنفيون والشافعيون فإنهم يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ، وهم قد خالفوا هاهنا : عمر ، وابن عمر ، وعليا ، وابن عباس رضي الله عنهم - لا يعرف لهم في هذا من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ، إلا رواية ضعيفة قد ذكرناها عمن لم يسم فكل طائفة تنقض أصلها وتهدم ما تبني ، وما ينبغي أن يرضى لنفسه بهذا ذو ورع ؟ ونحمد الله تعالى على عظيم نعمه وأما العين العوراء - قال علي : نذكر الآن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية } وقال بهذا طائفة من السلف الطيب .

                                                                                                                                                                                          كما حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا هشام هو الدستوائي نا قتادة عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قضى في العين العوراء إذا فضخت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء إذا سقطت ثلث ديتها وعن ابن عباس في العين العوراء إذا خسفت ثلث الدية .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر روينا من طريق وكيع نا سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار قال : قضى زيد بن ثابت في العين القائمة إذا بخصت بمائة دينار .

                                                                                                                                                                                          وعن سعيد بن المسيب يقول في العين القائمة تبخص عشر الدية - وقال به غيره - : كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا محمد بن إسحاق [ ص: 35 ] عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أنه قال في العين القائمة إذا بخصت خمس ديتها - وبه يقول الليث بن سعد وغيره .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ، ومعمر قالا جميعا : نا ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في العين القائمة التي لا تبصر : إن ثقبت ، أو بخصت ففيها نصف قدر العين - خمس وعشرون بعيرا من الإبل - وإن كان قد أخذ نذرها أول مرة .

                                                                                                                                                                                          وقول آخر - كما روينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج نا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال في كتاب عمر بن عبد العزيز : إن كان لطمت العين فدمعت دموعا لا ترقأ ، فلها ثلثا دية العين ، وإن كانت دمعة لا تجف دمعها - وهي دون الدمعة الأولى - فنصف دية العين ، وإن كانت دمعة من العين تسحل أحيانا ، وأحيانا يذهب فيها بصره - ففيها خمسمائة دينار وعن إبراهيم النخعي قال : في العين العوراء القائمة إذا أصيبت الدية ، فإذا كانت مفقوءة قائمة فخسفت ففيها صلح .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم النخعي من طريق جابر الجعفي في العين العوراء حكم .

                                                                                                                                                                                          وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الزهري ، رويناه من طريق ابن وهب قال أبو محمد : هذا من عجائب الدنيا أن الحنفيين ، والمالكيين : يدعون أنهم يقولون برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا وافق أهواءهم ، وهم هاهنا قد خالفوا رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، وابن عباس في قول ثابت عنهما قال علي : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ [ نا ابن وضاح ] نا موسى بن معاوية نا وكيع نا هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال في العين العوراء إذا تشترت ثلث الدية .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 36 ] حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد أن يكتبوا إليه بعلم علمائهم ، قال : مما اجتمع عليه فقهاؤهم : في شتر العين ثلث الدية وروينا من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة قال : في التشتر في العين ربع الدية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لو وجد المالكيون والحنفيون أقل من هذا لما ترددوا ؟ وأي إجماع على أصولهم يكون أقوى من هذا الإجماع بهذا السند الثابت إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أمراء الأجناد يسألهم عن إجماعهم - وهو خليفة - لا يشذ عن طاعته مسلم في شيء من أقطار الأرض كلها أولها عن آخرها ، من آخر الأندلس ، وطنجة ، إلى بلاد السودان إلى آخر السند ، وآخر خراسان ، وآخر أرمينية ، وآخر اليمن ، فما بين ذلك يجمع له فقهاؤهم : على أن في شتر العين ثلث الدية - ولكن ما على المهولين بالإجماع مؤنة في خلاف هذا الإجماع فلا يرون في ذلك إلا حكومة ؟ ولكن لله در الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه إذ يقول : ما حدثنا به حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول فيما يدعي فيه الإجماع : هذا الكذب ، من ادعى الإجماع فهو كاذب ، لعل الناس اختلفوا ، ولم ينته إليه ، فيقول : لا نعلم الناس اختلفوا ، هذا دعوى بشر المريسي ، والأصم - ولكن نقول : لا نعلم الناس اختلفوا ، ولم يبلغني ذلك قال أبو محمد : هذا هو الدين والورع لا الجسر بلا علم ، كما كان يقول الشعبي رحمه الله - إذا سئل عن مسألة ماذا قال فيها الحكم البائس أجسر جسارا سميتك الفسفاس إن لم تقطع .

                                                                                                                                                                                          قال علي : إلا ما لا يختلف فيه مسلمان في أن من خالفه فليس مسلما - فهذا [ ص: 37 ] إجماع صحيح ، كالإجماع على قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وكالصلوات الخمس وشهر رمضان ، والحج ، وجملة الزكاة ، وما كان هكذا وما تيقن بلا شك علم جميع الصحابة وقولهم به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية