الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2155 - مسألة : فيمن يحلف بالقسامة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له ، واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه ، منها : هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا ؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا ؟ وهل تحلف المرأة فيهم أم لا ؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا ؟ وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا ؟ وهل يحلف الحليف أم لا ؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع ، إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا رسول الله عليه السلام قال في حديث القسامة - الذي لا يصح عنه غيره - كما قد تقصيناه قبل { تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم } فخاطب النبي - عليه الصلاة والسلام - بني حارثة عصبة المقتول .

                                                                                                                                                                                          وبيقين يدري كل ذي معرفة : أن ورثة عبد الله بن سهل - رضي الله عنه - لم يكونوا خمسين ، وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده ، وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة ، وحويصة ، وهما غير وارثين له ؟ فصح - أن العصبة يحلفون ، وإن لم يكونوا وارثين .

                                                                                                                                                                                          وصح - أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له - سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب ابني العم ، كما خاطب الأخ خطابا مستويا ، لم يقدم أحدا منهم .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 322 ] وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم ، ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار - كبني عبد الأشهل وبني ظفر ، وبني زعور ، وهم إخوة بني حارثة - فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم ، إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك ، فإنه يحلف معهم إن شاء ; لأنه منهم ، ولم يخص عليه السلام إذ قال : خمسون منكم حرا من عبد - إذا كان منهم - كما كان عمار بن ياسر - رضي الله عنه - من طينته : عنس ، ولحقه الرق لبني مخزوم - وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق ; لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه - وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا ، ولحقه الرق من قبل أمه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما المرأة - فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحلف امرأة في القسامة - وهي طالبة - فحلفت ، وقضى لها بالدية على مولى لها . وقال المتأخرون : لا تحلف المرأة أصلا - واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة ، وهذا باطل مؤيد بباطل ; لأن النصرة واجبة على كل مسلم . بما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما ، قالوا : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه } .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مسلم نا أحمد بن عبد الله بن يونس نا زهير - هو ابن معاوية - نا أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال : دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ، ونهانا عن سبع أمرنا : بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم - أو المقسم - ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 323 ] فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا . قال الله تعالى { إنما المؤمنون إخوة } . نعم ، ونصر أهل الذمة فرض ، قال الله تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } .

                                                                                                                                                                                          فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام - فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { يحلف خمسون منكم } وهذا لفظ يعم النساء والرجال .

                                                                                                                                                                                          وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع .

                                                                                                                                                                                          فأما الصبيان والمجانين ، فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين - قال صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاث . فذكر : الصبي والمجنون } مع أنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          وأما المولى من فوق ، والمولى من أسفل ، والحليف ، فإن قوما قالوا : قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { مولى القوم منهم - ومولى القوم من أنفسهم } .

                                                                                                                                                                                          وأثبت الحلف في الجاهلية - قالوا : ونحن نعلم يقينا - أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل ، وحلفاء ، لا شك في ذلك ، ولا مرية ، فوجب أن يحلفوا معهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { مولى القوم منهم - ومن أنفسهم } فصحيح - وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك ؟ إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم } حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم ، أو مولى لهم - ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم ، أو حليف لهم ، لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم ، وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى ؟ فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه ، إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 324 ] فإن قيل : قد قال صلى الله عليه وسلم { مولى القوم منهم } يغني عن حضور الموالي هنالك ، والحليف أيضا - يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم { أمن موالي يهود } يريد من حلفائهم ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم .

                                                                                                                                                                                          وقال أيضا { ابن أخت القوم منهم } ، وقد أوردناه قبل بإسناده في " كتاب العاقلة " ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله ؟ فنحن نقول : إن ابن أخت القوم منهم : حق ; لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة ، والحليف والمولى أيضا منهم ; لأنهما من جملتهم - وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم .

                                                                                                                                                                                          وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش ، ولا حليفهم ، ولا ابن أخت القوم ، وإن كان منهم - .

                                                                                                                                                                                          والقسامة في العمد والخطأ سواء - فيما ذكرنا - فيمن يحلف فيها ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية