الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الحادي عشر في أنواع الوحي

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء رضي الله تعالى عنهم : كان الوحي ينزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوال مختلفة .

                                                                                                                                                                                                                              الأول : الرؤيا الصادقة في المنام . قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر [الصافات 102] فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن عبيد بن عمير : «رؤيا الأنبياء وحي» وقرأ هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن ينفث الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته .

                                                                                                                                                                                                                              رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة والحاكم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [الشورى 51] : هو أن ينفث في روعه بالوحي . قال الحليمي : هذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن يأتيه مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه ، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات عن أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «كان الوحي يأتيني على نحوين : يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقى الرجل الرجل فذاك يتفلت مني ، ويأتيني في شيء مثل صلصلة الجرس حتى يخالط قلبي فذاك لا يتفلت مني» . [ ص: 264 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وهذا محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى : لا تحرك به لسانك

                                                                                                                                                                                                                              كما تقدم فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة ولم يتفلت ما أتاه به ، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي ، وغير ذلك ، وكلها في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : أن يكلمه الله تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء على القول بعدم الرؤية .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : أن يكلمه الله تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء .

                                                                                                                                                                                                                              وسيأتي بسط ذلك في أبوابه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى : وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم ، نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى وألم نشرح ، فقد روى ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سألت ربي مسألة ووددت أني لم أكن سألته ، قلت : أي رب اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما ، فقال يا محمد : ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت ، وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي» .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : أن يكلمه الله تعالى في النوم ، كما في حديث معاذ عند الترمذي : «أتاني ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى»

                                                                                                                                                                                                                              ويأتي بتمامه في أبواب مناماته .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر بعضهم من هذا سورة الكوثر لما رواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع بصره مبتسما فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر إلى آخرها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام الرافعي رحمه الله تعالى في أماليه : فهم فاهمون من الأحاديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة وقالوا من الوحي ما كان يأتيه في النوم لأن رؤيا الأنبياء وحي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وهذا صحيح لكن الأشبه أن يقال : القرآن كله نزل في اليقظة وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة في اليقظة ، أو عرض عليه الكوثر الذي وردت فيه السورة فقرأها عليهم وفسرها لهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه وقد يحمل ذلك على الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي ويقال لها برحاء الوحي .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى : وهذا الذي قاله الإمام الرافعي في غاية الاتجاه ، وهو الذي [ ص: 265 ] كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه ، والتأويل الأخير أصح من الأول لأن قوله : أنزل علي آنفا يدفع كونها نزلت قبل ذلك ، بل نقول : نزلت في تلك الحالة وليس الإغفاء إغفاءة نوم بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي ، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : مجيء الوحي كدوي النحل .

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد والحاكم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أنزل عليه يسمع عند وجهه كدوي النحل» .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام .

                                                                                                                                                                                                                              لأنه اتفق على أنه صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا وكان معصوما عن الخطأ وهذا خرق للعادة في حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة ، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد والنفث بدونه . قال في إرشاد الساري : ويعكر عليه أن الظاهر من كلام الأصوليين أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم والوحي قسمان . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              هذا ما وقفت عليه من صفات الوحي .

                                                                                                                                                                                                                              وأما صفة حامله : فمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح يتناثر من أجنحته اللؤلؤ والياقوت ، وقد وقع ذلك مرتين : مرة في السماء ليلة المعراج ، ومرة في الأرض ، كما سيأتي بسط ذلك في أبواب المعراج .

                                                                                                                                                                                                                              ومجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر .

                                                                                                                                                                                                                              وفي صورة دحية الكلبي .

                                                                                                                                                                                                                              ومجيئه في صورة رجل غير دحية .

                                                                                                                                                                                                                              نزول الوحي على لسان ملك الجبال كما سيأتي بيان ذلك في باب سفره إلى الطائف ونزوله على لسان إسرافيل ، كما تقدم بيان ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية