الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ويستحب قتل كل مؤذ من حيوان وطير ( في الحرم ) ، جزم به في المستوعب وغيره ، وهو مراد من أباحه ، نقل حنبل : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب والسبع وكل ما عدا من السباع ، ونقل أبو الحارث : يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد ( و م ش ) وقال أبو حنيفة : يقتل ما في الخبر والذئب ، وإلا فعليه الجزاء ، وعن أبي حنيفة : العقور وغير العقور والمستأنس والمستوحش منهما سواء . لأن المعتبر في ذلك الجنس ، وكذا الفأرة الأهلية والوحشية سواء . قال أصحابه ولا شيء في بعوض وبراغيث وقراد ، لأنها ليست بصيد ، ولا متولدة من البدن ، ومؤذية بطبعها . وكذا النمل المؤذي ، وإلا لم يحل قتله ، لكن لا جزاء ، للعلة الأولى . لنا أن الله [ سبحانه وتعالى ] علق تحريم صيد البر بالإحرام وأراد به المصيد ، لقوله : { لا تقتلوا الصيد } وقوله : { أحل لكم صيد البحر } لأنه أضاف الصيد إلى البر ، وليس المحرم صيدا حقيقة ، ولهذا قال عليه السلام { الضبع صيد وفيه كبش } وعن عائشة مرفوعا { خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور } متفق عليه ، ولمسلم { والغراب الأبقع } وللنسائي وابن ماجه { خمس يقتلهن المحرم : الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور }

                                                                                                          [ ص: 438 ] وعن ابن عمر مرفوعا { خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور } متفق عليه ولمسلم { في الحرم والإحرام } وللدارقطني فيه { يقتل المحرم الذئب } وسئل أيضا : ما يقتل المحرم من الدواب ؟ فقال : حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية ، قال : وفي الصلاة أيضا } . رواه مسلم ، وعن أبي هريرة مرفوعا { خمس قتلهن حلال في الحرم فأسقط الغراب } رواه أبو داود ، ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا { خمس كلهن فاسقة يقتلهن المحرم في الحرم ، فأسقط الحدأة } ، ولمسلم عن ابن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية بمنى } ، فنص من كل جنس على أدناه تنبيها ، والتنبيه مقدم على المفهوم إن كان ، فإن اختلاف الألفاظ يدل على عدم القصد ، والمخالف لا يقول بالمفهوم ، والأسد كلب ، كما في دعائه عليه السلام على عتبة بن أبي لهب ; ولأن ما لا يضمن بقيمته ولا مثله لا يضمن بشيء كالحشرات ، فإن عندهم لا يجاوز بقيمته شاة ; لأنه محارب مؤذ ، قلنا : فهذا لا جزاء فيه . وعند زفر : تجب قيمته بالغة ما بلغت ، وهو أقيس على أصلهم ، وقال قوم : لا يباح قتل غراب البين ، ولعله ظاهر المستوعب ، فإنه مثل بالغراب الأبقع فقط ، وكذا قال الحنفية المراد به الغراب الذي

                                                                                                          [ ص: 439 ] يأكل الجيف ، للفظ الخاص ، لكن غيره أكثر وأصح ، والمعنى يقتضيه ، وفي المفهوم نظر هنا ، وعن أبي سعيد مرفوعا { أنه سأل عما يقتل المحرم ، قال : الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي } فيه يزيد بن أبي زياد ، ضعفه الأكثر ، سبق أول المواقيت ، وفيه مخالفة للصحاح ، رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، واعتمد عليه القاضي بناء على أن العادي وصف لازم . ويدخل في الإباحة البازي والصقر والشاهين والعقاب ونحوها ، والذباب والبق والبعوض ، وذكره في المستوعب والشيخ وغيرهما ، ونقل حنبل : يقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب ، ولا كفارة ، فإن قتل شيئا من هذه من غير أن يعدو عليه فلا كفارة عليه ، ولا ينبغي له ، وما لا يؤذي بطبعه لا جزاء فيه ، لما سبق ، قال بعض أصحابنا : ويجوز قتله ، وقيل : يكره ، وجزم به في المحرر وغيره ، وقيل : يحرم ، نقل أبو داود : يقتل كل ما يؤذيه ، ولأصحابنا وجهان في نمل ونحوه ، وجزم في المستوعب : يكره من غير أذية ، وذكر منها الذباب والتحريم أظهر ، للنهي ( م 33 ) ونقل حنبل : لا بأس بقتل الذر ،

                                                                                                          [ ص: 440 ] ونقل مهنا : ويقتل النملة إذا عضته والنحلة إذا آذته ، واختار شيخنا : لا يجوز قتل نحل ولو بأخذ كل عسله ، قال هو وغيره : إن لم يندفع [ ضرر ] نمل إلا بقتله جاز ، قال أحمد : يدخن للزنابير إذا خشي أذاهم هو أحب إلي من تحريقه ، والنمل إذا آذاه يقتله ، واحتج في المغني على تحريم قتل غير مؤذ بالنهي عن قتل الكلاب ، فدل على التسوية ، وأنه إن جاز ، جاز قتل كل كلب لم يبح اقتناؤه ، كما هو ظاهر كلام جماعة هنا ، وهو متجه ، ويلزم من لم يحرم قتل النمل ، وأولى ، وقد سبق قول أحمد :

                                                                                                          [ ص: 441 ] يقتل النمل إذا آذته ، فالكلاب بنجاستها وأكل ما غفل الناس عنه أولى ، لكن ما استثناه الشرع من كلب الصيد ونحوه يحرم قتله ( م ) كما أن الكلب الأسود البهيم يباح قتله ، ذكره الأصحاب ، لأمر الشارع به ، وعن ابن عباس مرفوعا { نهى عن قتل الخطاطيف ، وكان يأمر بقتل العنكبوت ، وكان يقال : إنها مسخ } رواه أبو يعلى الموصلي بسند واه ، قال ابن الجوزي في الموضوعات : ولا يجوز قتل العنكبوت ، وفي ذلك بسط في الآداب الشرعية . ولا جزاء في محرم إلا ما سبق من المتولد ، قال أحمد في الضفدع : لا فدية فيه ، نهي عن قتله .

                                                                                                          وفي الإرشاد فيه حكومة ، ونقله عبد الله وقاله سفيان ، وذكر لأحمد فقال : لا أعرف فيه حكومة .

                                                                                                          وقال ابن عقيل : في النملة لقمة أو تمرة إذا لم تؤذه ، وخرج بعضهم مثله في النحلة .

                                                                                                          وقال بعض أصحابنا : في أم حبين جدي ، وهي دابة معروفة مثل ابن عرس وابن آوى ويقال أم حبينة ، سميت بذلك لانتفاخ بطنها ، شبهت بالحبلى ، ومنه الأحبن وهو المستسقى ; لأن عثمان [ رضي الله عنه ] قضى بذلك ، رواه الشافعي ، فيتوجه منه كل محرم لم يؤمر بقتله

                                                                                                          [ ص: 439 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 439 ] مسألة 33 ) قوله : ولأصحابنا وجهان في نمل ونحوه يعني إذا لم يؤذ [ ص: 440 ] وجزم في المستوعب : يكره من غير أذية ، وذكر منها الذباب ، والتحريم أظهر للنهي انتهى .

                                                                                                          يعني هل يحرم قتل النمل ونحوه إذا لم يؤذ أم لا ؟ ( قلت ) الصواب التحريم ، وهو ظاهر ما قدمه في الرعاية الكبرى ، وقدمه في الآداب الكبرى وقال : وظاهر كلام بعض أصحابنا في محظورات الإحرام أن قتل النمل والنحل والضفدع ( في الحرم ) لا يجوز .

                                                                                                          وقال ابن عقيل في آخر الفصول : لا يجوز قتل النمل ولا تخريب أجحرتهن ولا قصدهن بما يضرهن ، ولا يحل قتل الضفادع ، انتهى ، وسئل الشيخ تقي الدين هل يجوز إحراق بيوت النمل بالنار ( في الحرم ) ؟ فقال يدفع ضرره بغير التحريق ، وذكر في المغني في مسألة قتل الكلب أن لا يضره فيه : لا يباح قتله ، وكان في الرعاية الكبرى في مكان آخر : يكره قتل ما لا يضر من نمل ونحل وهدهد وصرد انتهى . وهو الذي جزم به في المستوعب .

                                                                                                          وقال في الآداب بعد أن تكلم على المسألة فصارت الأقوال في قتل ما لا يضره فيه ثلاثة الإباحة والكراهة والتحريم ، انتهى ، وعلى كل حال الصحيح التحريم ، وقد اختاره ابن عقيل والشيخ الموفق والمصنف وغيرهم ، وهو ظاهر كلام الناظم .




                                                                                                          الخدمات العلمية