الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 150 ] ( ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا بعينه أو امرأة فلان أو صديق فلان فباع فلان عبده أو بانت منه امرأته أو عادى صديقه فكلمهم لم يحنث ) لأنه عقد يمينه على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان ، إما إضافة ملك أو إضافة نسبة ولم يوجد فلا يحنث ، قال هذا في إضافة الملك بالاتفاق . وفي إضافة النسبة عند محمد يحنث كالمرأة [ ص: 151 ] والصديق . قال في الزيادات : لأن هذه الإضافة للتعريف لأن المرأة والصديق مقصودان بالهجران فلا يشترط دوامها فيتعلق الحكم بعينه كما في الإشارة . ووجه ما ذكر هاهنا وهو رواية الجامع الصغير أنه يحتمل أن يكون غرضه هجرانه لأجل المضاف إليه ولهذا لم يعينه فلا يحنث بعد زوال الإضافة بالشك ( وإن كانت يمينه على عبد بعينه بأن [ ص: 152 ] قال عبد فلان هذا أو امرأة فلان بعينها أو صديق فلان بعينه لم يحنث في العبد وحنث في المرأة والصديق ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمد : يحنث في العبد أيضا ) وهو قول زفر ( وإن حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها فهو على هذا الاختلاف ) وجه قول محمد وزفر أن الإضافة للتعريف والإشارة أبلغ منها فيه لكونها قاطعة للشركة ، بخلاف الإضافة فاعتبرت الإشارة ولغيت الإضافة وصار كالصديق والمرأة . ولهما أن الداعي إلى اليمين معنى في المضاف إليه لأن هذه الأعيان لا تهجر ولا تعادى لذواتها ، وكذا العبد لسقوط منزلته بل لمعنى في ملاكها فتتقيد اليمين بحال قيام الملك ، بخلاف ما إذا كانت الإضافة إضافة نسبة كالصديق والمرأة لأنه يعادى لذاته فكانت الإضافة للتعريف والداعي المعنى في المضاف إليه غير ظاهر لعدم التعيين ، بخلاف ، ما تقدم

التالي السابق


( قوله ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا له بعينه ) إنما أراد من ينسب إليه بالعبودية أو امرأة فلان إلخ .

اعلم أنه إذا حلف على هجران محل مضاف إلى فلان كلا يكلم عبد فلان أو زوجته أو صديقه أو لا يدخل داره أو لا يلبس ثوبه أو لا يركب فرسه أو لا يأكل من طعامه فلا شك أن هذه الإضافة في الكل معرفة لعين ما عقد اليمين على هجره سواء كانت إضافة ملك كعبده وداره ودابته أو إضافة نسبة أخرى غير الملك كزوجته وصديقه ، فالإضافة مطلقا تفيد النسبة والنسبة أعم من كونها نسبة ملك أو غيره فلا يصح جعل إضافة النسبة تقابل إضافة الملك كما فعل المصنف وغيره لأنه تقابل بين الأعم والأخص إلا أن يكون بخصوص عرف اصطلاحي وهو محمل الجعل المذكور للمصنف ، وإذا كانت هذه الإضافة مطلقا للتعريف فبعد ذلك إما أن يقرن به لفظ الإشارة كقوله لا يكلم عبده هذا أو زوجته هذه أو لا ، فعلى تقدير عدم الإشارة الظاهر أن الداعي في اليمين كراهته في المضاف إليه وإلا لعرفه باسم العلم ، ثم أعقبه بالإضافة أن عرض اشتراك مثل لا أكلم راشدا عبد فلان ليزيل الاشتراك العارض في اسم راشد أو فلانة زوجة فلان كذلك ، فلما اقتصر على الإضافة ولم يذكر اسمه ولا أشار إليه كان الظاهر أنه لمعنى في المضاف إليه ، وإن احتمل أن يهجر بعضها لذاته أيضا كالزوجة والصديق فلا يصار إليه بالاحتمال ، وحينئذ فاليمين منعقدة على هجر المضاف حال قيام الإضافة وقت الفعل بأن كان موجودا وقت اليمين ودامت الإضافة إلى وقت الفعل أو انقطعت ثم وجدت بأن باع وطلق ثم استرد أو لم يكن وقت اليمين فاشترى عبدا فكلمه حنث ، وكذا لو لم تكن له زوجة فاستحدث زوجة ينبغي أن يحنث في قول أبي حنيفة ، ولو ارتفعت النسبة الثابتة التي عنها صححت الإضافة بأن باع فلان عبده وداره وثوبه ودابته وعادى صديقه وطلق زوجته فكلم العبد والمرأة والصديق لا يحنث ، وكذا إذا لبس الثوب أو دخل الدار أو ركب الدابة لا يحنث لما قلنا إن اليمين انعقدت باعتبار النسبة القائمة وقت الفعل والحال أنها زائلة عنده وهذا الأصل على قول أبي حنيفة .

وأما عند محمد فاليمين منعقدة في المملوك على الإضافة القائمة وقت الفعل كما ذكرنا ، وفي إضافة النسبة على القائمة وقت اليمين ، فتفرع على هذا أنه لو طلق زوجته وعادى صديقه واستحدث زوجة وصديقا فكلم المستحدث لا يحنث ، ولو كلم المتروكة حنث ، وهذا ما نقله المصنف عنه من الزيادات . ووجهه ما جوزناه في أصل أبي حنيفة من أنهما [ ص: 151 ] يقصدان بالهجر لأنفسها لا لغيرهما ، فكانت الإضافة لمجرد تعريف الذات المهجورة فلا يشترط دوامها أو وجودها وقت الفعل فتعلق الحكم أي الهجر بعينه كما في الإشارة ، فإنه إذا قال زوجة فلان هذه ونحوها مما إضافته إضافة نسبة فالاتفاق أنه يحنث بكلامه بعد انقطاعها كما سيذكر وجه المذكور في الجامع . لأبي حنيفة ما تقدم من أن الظاهر أن الهجر للمضاف إليه بما ذكرنا من الوجه ، وأقل ما في الباب جواز كون هجره لنفسه وأن يكون للمضاف إليه ، وعلى الأول يحنث وعلى الثاني لا فلا يحنث بالشك ، فظهر بما ذكرنا أن ما ذكره في النهاية وغيرها من قوله الأصل في جنس هذه المسائل أنه متى عقد يمينه على فعل في محل منسوب إلى الغير بالملك يراعى للحنث وجود النسبة وقت وجود الفعل المحلوف عليه ، ولا معتبر بالنسبة وقت اليمين إذا لم توجد وقت الفعل ، وإن كان منسوبا إلى الغير لا بالملك يراعى وجود النسبة وقت اليمين ولا معتبر بها وقت الفعل .

ثم وجه الفرق بأن في إضافة الملك الحامل على اليمين معنى في المالك ، لأن هذه الأشياء لا تعادى لعينها . وفي إضافة النسبة معنى فيهم لأن الأذى يتصور منهم . واستشكل بأن العبد يتصور منه الأذى . أجيب بأن ابن سماعة ذكر في نوادره أنه يحنث عند أبي حنيفة لهذا . ووجه الظاهر أن العبد ساقط الاعتبار عند الأحرار فإنه يباع في الأسواق كالحمار ، فالظاهر أنه إن كان منه أذى إنما يقصد هجران سيده بهجرانه .

ولا يخفى أنه أعني هذا الأصل لا يصح إلا لمحمد فقط ، فإطلاق جعله أصلا لهذه المسائل ليس بصحيح لأن الاقتصار عليه يوهم الاتفاق عليه ، أو أنه الأصل لصاحب المذهب . هذا ، وروي أن هشاما أخبر أن محمدا رجع إلى قول أبي حنيفة ، وقال : لا يحنث هذا إذا لم يعينه فلم يذكر الإشارة ، فأما إن عينه فذكر الإشارة بأن قال عبد فلان هذا أو داره هذه أو امرأته هذه أو صديقه هذا فباع العبد والدار وطلق وعادى فكلمه ودخل لم يحنث في المملوك من العبد والدار وحنث في غيره من المرأة والصديق عند أبي حنيفة وأبى يوسف ، وعند محمد وزفر يحنث في الكل وهو قول الشافعي ومالك وأحمد ، لأن الإضافة في الكل للتعريف كما قدمنا ، والإشارة أبلغ منها فيه لكونها قاطعة للشركة ، بخلاف التعريف الآخر فلزم اعتبارها وسقوط الأخرى [ ص: 152 ] وإذا اعتبرت انعقدت اليمين على خصوص العين فلزم الحنث بترك هجرانها بعد الإضافة كما قبله ، وهما يقولان إن هجران المضاف إذا كان مملوكا ليس لذاته لسقوط اعتبارها فتقيد ببقاء النسبة مع الإشارة وعدمها ، بخلاف غير المملوك فإنه لما كان مما يعادى لنفسه كما يعادى لغيره فعند عدم الإشارة استوى الحال فلا يحنث بالشك ومع زيادة الإشارة ترجح كون هجره لمعنى في نفسه ، فلا يتقيد الحنث بدوام الإضافة لأن كون الداعي إلى اليمين معنى في المضاف إليه في غير المملوك غير ظاهر لعدم التعيين أي لأنه لم يتعين ، بخلاف ما تقدم وهو إضافة الملك لأن الداعي كما يجوز كونه معنى في المضاف إليه يجوز كونه نفس المضاف حيث كان صالحا لأن يعادى لنفسه ، وقوله لغت الإضافة ممنوع ، وإنما يلزم لو لم تكن لها فائدة أخرى لكن الواقع أن لها فائدة وهي إفادة أن الهجران منوط بنسبته إلى المضاف إليه لغيظ منه فيعتبر كل منها لفائدته .

وقد رجح ابن العز قول محمد وزفر بأن العبد وإن كان ساقط المنزلة قد يقصد بالهجران والحالف لو أراد هجرانه لأجل سيده لم يحتج إلى الإشارة ، فلما أشار [ ص: 153 ] إليه بقوله هذا علم أن مراده قصده بالهجران ، وقال وكذلك الدار ولكن العبد أظهر لظهور صحة قصده بالهجران كما في المرأة والصديق انتهى .

وما ذكر من أن كل فائدة ; ففائدة الإشارة التعريف ، وفائدة الإضافة بيان مناط الهجر . قد يدفع بأن الإضافة تستقل بالفائدتين ، فإنها أيضا تعرف الشخص المحلوف على هجره كما تفيد الآخر . وجوابه أن الإشارة كما تفيد التعريف يحصل بها التخصيص أيضا ، وهذا لا يحصل بالإضافة وحدها ، فإنه لو قال عبد فلان انعقدت على كل عبد له ، وفي قوله عبد فلان هذا لا يحنث بكلام عبد آخر لفلان وإن كانت الإضافة تفيد أن سبب هجر العبد نسبته لسيده ، ولكن الحنث في الأيمان لا يثبت بالقياس بل بفعل عين المحلوف عليه ، ولو حلف لتعطين هذا الفقير لفقره لم يحنث إذا لم يعط غيره من الفقراء ، وهذا الخلاف إذا لم تكن له نية ، أما لو نوى أن لا يدخلها ما دامت لفلان أو لا يدخلها وإن زالت الإضافة فعلى ما نوى لأنه شدد على نفسه في الثاني ونوى محتمل كلامه في الأول ، وروي شذوذا عن أبي يوسف في دار فلان هذه أنه يحنث بعد زوال الإضافة وليس بشيء وعنه أيضا لا يحنث بالدار المتجدد ملكها لأن الملك لا يستحدث فيها عادة فإنها آخر ما يباع وأول ما يشترى عادة فتقيدت اليمين بالقائمة في ملكه وقت الحلف .

أجيب بأن العرف مشترك ، فإن الدار قد تباع وتشترى مرارا فلا يصلح مقيدا . وعنه أيضا أن اليمين تتقيد في الكل بالقائم في ملكه وقت الحلف ، رواه بشر عنه قال : إذا قال دار فلان لا يتناول ما يستحدث ملكه ، بخلاف قوله دارا لفلان لأن قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الإضافة وإلا كان مجملا فلا بد من قيام الملك لفلان وقت يمينه . وفي قوله دارا لفلان الكلام تام بلا ذكر فلان فكان ذكر فلان تقييدا لليمين بما يكون مضافا إلى فلان وقت السكنى ، ثم في الحلف لا يسكن دارا لفلان لا يحنث بسكنى دار مشتركة بين فلان وغيره وإن قل نصيب غيره .

وفي بعض الشروح : لا أتزوج بنت فلان لا يحنث بالبنت التي تولد بعد اليمين بالإجماع ، وهو مشكل فإنها إضافة نسبة فينبغي أن تنعقد على الموجودة حال التزوج ، فلا جرم أن في التفاريق عن أبي يوسف إن تزوجت بنت فلان أو أمته أنه على الموجود والحادث




الخدمات العلمية