الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 148 ] ( ولو قال ليلة أكلم فلانا فهو على الليل خاصة ) لأنه حقيقة في سواد الليل كالنهار للبياض خاصة ، وما جاء استعماله في مطلق الوقت ( ولو قال إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان أو قال حتى يقدم فلان أو قال إلا أن يأذن فلان أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق فكلمه قبل القدوم والإذن حنث ، ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث ) لأنه غاية [ ص: 149 ] واليمين باقية قبل الغاية ومنتهية بعدها فلا يحنث بالكلام بعد انتهاء اليمين ( وإن مات فلان سقطت اليمين ) خلافا لأبي يوسف لأن الممنوع عنه كلام ينتهي بالإذن والقدوم ولم يبق بعد الموت متصور الوجود فسقطت اليمين . وعنده التصور ليس بشرط ، فعند سقوط الغاية تتأبد اليمين .

[ ص: 148 ]

التالي السابق


[ ص: 148 ] قوله ولو قال ليلة أكلم فلانا فهو على الليل خاصة ) لأنه حقيقة في سواده كالنهار للبياض خاصة ، وما نافية ، وجاء استعماله في مطلق الوقت كما جاء في لفظ اليوم . وأورد عليه قول القائل :

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ليالي لاقينا جذاما وحميرا سقيناهم كأسا سقينا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

والمراد مطلق الوقت فإن الحرب لم تكن ليلا .

أجاب شمس الأئمة بأن المذكور الليالي بصيغة الجمع ، وذكر أحد العددين بصيغة الجمع ينتظم ما بإزائه من الآخر ، ولا كذلك المفرد : يعني ذكر الليالي ينتظم النهر التي بإزائها ، كما أن ذكر الأيام ينتظم الليالي التي بإزائها . قال تعالى { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } وفي آية أخرى ثلاث ليال سويا والقصة واحدة وليس الكلام إلا في المفرد ، فإن ذكر الليلة لا يستتبع اليوم ولا بالقلب . ونظر فيه بعضهم بأنه يقتضي أن الشاعر قصد أن الملاقاة كانت مستوعبة لليالي تتبعها أيام بقدرها ، والمتعارف في مثل هذا الكلام أنه إنما يقصد به الوقت لا الجمع بين الأيام والليالي ، وليس هذا بشيء لأن الواقع قد يكون أن الحرب دامت بينهم أياما ولياليها ، وهذا كثير الوقوع ، فأراد أن يخبر بالواقع فعبر عنه بما يفيده ولا دخل لذلك في خصوص عرف .

( قوله ولو قال إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان أو قال حتى يقدم فلان أو إلا أن يأذن فلان أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق فكلمه قبل القدوم أو الإذن حنث ، ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث لأنه غاية ) أي لأن القدوم والإذن غاية لعدم الكلام لما قدمنا أن فعل الشرط المثبت في اليمين يكون للمنع منه فيكون في معنى المنفي به وبالقلب ; فقوله إن كلمته حتى يقدم بمعنى لا أكلمه حتى يقدم وإن وقع خلاف ذلك فامرأته طالق ، وإذا كان غاية لعدم الكلام فاليمين معقودة على الكلام حال عدم الإذن فتبقى اليمين ما بقي عدم الإذن الواقع غاية فيقع الحنث بالكلام حال عدمه وينتهي بعد الغاية لأنها مقيدة به فلا يحنث : الكلام بعد مجيئه وإذنه ، أما أن حتى غاية فظاهر ، [ ص: 149 ] وإما أن إلا أن غاية فلأن به ينتهي منع الكلام فشابهت الغاية إذا كانت الغاية لمنعه فأطلق عليها اسمها ، ومثله قوله تعالى { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } أي إلى موتهم .

وقيل هي استثناء على حالها وفيه شيء ، وهو أن تقدير الاستثناء فيها إنما يكون من الأوقات أو الأحوال على معنى " امرأته طالق في جميع الأوقات أو الأحوال إلا وقت قدوم فلان أو إذنه وإلا حال قدومه أو إذنه بتقدير مضاف إلى المصدر المنسبك من أن يقدم وأن يأذن ، فإن تقدير إلا أن يأذن إلا إذنه وهو يستلزم تقييد الكلام بوقت الإذن والقدوم ، فيقتضي أنه لو كلمه بعد القدوم أو الإذن حنث لأنه لم يخرج عن أوقات وقوع الطلاق إلا ذلك الوقت وهو غير الواقع ، ثم أورد أن " إلا أن شرط لا غاية لأنها شرط في قوله امرأته طالق إلا أن يقدم زيد فإن المعنى إن لم يقدم زيد . وأجيب بأنها إنما تكون للغاية فيما يحتمل التأقيت والطلاق مما لا يحتمله : يعني فتكون فيه للشرط ا هـ .

وهذا يؤيد ما تقدم من أن الكلام مما يمتد لأنه الشرط هنا بخلاف ما ذكر المصنف ، ولما كان مظنة أن يعترض بأن الشرط وهو إلا أن يقدم مثبت فالمفهوم أن القدوم شرط الطلاق لا عدمه . وجهه شارح آخر فقال وإنما حمل على إن لم يقدم في مسألة الطلاق لا على أن قدم لأنه جعل القدوم رافعا للطلاق فيكون القدوم علما على الوقوع ، وتحقيقه أن معنى التركيب وقوع الطلاق في الحال مستمر إلى قدوم فلان فيرتفع فيكون قدومه علما على الوقوع قبله ، والمتحقق من ذلك أن الطلاق يقع حال قدوم فلان وهو المعبر عنه بقولنا إن لم يقدم ، فحيث لم يمكن ارتفاعه بعد وقوعه بالقدوم وأمكن وقوعه عند عدم القدوم اعتبر الممكن فجعل عدم القدوم شرطا وهو حاصل أنت طالق إن لم يقدم فلا يقع الطلاق إلا أن يموت فلان قبل أن يقدم أو يأذن لأنه مطلق كقوله إن لم أطلقك فأنت طالق .

قال تاج الشريعة : ومهما أمكن المصير إلى هذا المجاز : يعني الغاية لا يصار إلى ذلك المجاز : يعني الشرط لأن في هذا إجراء المجاز في مجرد الاستثناء ، وفي ذلك إجراؤه في استثناء القدوم ، لأنا نجعل استثناء القدوم مجازا عن اشتراط عدم القدوم وإجراء المجاز أولى منه في المجموع ( قوله وإن مات فلان سقطت اليمين خلافا لأبي يوسف لأن الممنوع منه كلام ينتهي ) المنع منه ( بالإذن والقدوم ولم يبق ) الإذن ولا القدوم ( بعد موت من إليه الإذن والقدوم متصور الوجود ) فلم يبق البر متصور الوجود ، وبقاء تصوره شرط لبقاء اليمين المؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد على ما مر ، وهذا اليمين مؤقتة بوقت الإذن والقدوم إذ بهما يتمكن من البر إذ يتمكن من الكلام بلا حنث فيسقط بسقوط تصور البر .

وعند أبي يوسف التصور ليس بشرط فعند سقوط الغاية تتأبد اليمين ، فأي وقت كلمه فيه يحنث . فإن قيل : لا نسلم عدم تصور البر بموته لأنه سبحانه قادر على إعادة فلان فيمكن أن يقدم ويأذن . [ ص: 150 ] فالجواب أن الحياة المعادة غير الحياة المحلوف على إذنه فيها وقدومه وهي الحياة القائمة حالة الحلف لأن تلك عرض تلاشي لا يمكن إعادتها بعينها ، وإن أعيدت الروح فإن الحياة غير الروح لأنه أمر لازم للروح فيما له روح




الخدمات العلمية