الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                607 ص: وكان من الحجة لأهل هذا القول على أهل القول الأول: أن عبد الله بن مسعود إنما روي عنه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الطرق التي وصفنا، وليست هذه الطرق طرقا تقوم بها الحجة عند من يقبل خبر الواحد، ولم يجئ أيضا المجيء الظاهر، فيجب العمل على من يستعمل الخبر إذا تواترت الروايات به. فهذا مما لا يجب استعماله له لما ذكرناه على مذهب الفرقتين اللتين ذكرنا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى أن الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الأولى آثار ضعيفة؛ لأن في طرقها ضعفاء، وفي طرق بعضها مما رواه غير الطحاوي من لا يعرف ومن لا خير فيه، ألا ترى إلى الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه : عن شريك ، عن أبي فزارة ، عن أبي زيد ، عن عبد الله بن مسعود: "أن النبي - عليه السلام - قال في ليلة الجن: ماذا في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تمرة طيبة وماء طهور" فذكروا فيه ثلاث علل.

                                                [ ص: 281 ] الأولى: جهالة أبي زيد؛ لقد قال الترمذي : أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث.

                                                وقال ابن حبان في كتاب "الضعفاء" : أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود، وليس يدرى من هو، ولا يعرف أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس، استحق مجانبته.

                                                وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" : سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول.

                                                وذكر ابن عدي عن البخاري قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - وهو خلاف القرآن.

                                                العلة الثانية: هي التردد في أبي فزارة؛ فقيل: هو راشد بن كيسان، وهو ثقة أخرج له مسلم، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول. وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول.

                                                وذكر البخاري أن أبا فزارة العبسي غير مسمى، فجعلهما اثنين.

                                                العلة الثالثة: هي إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن؛ وذلك لما روى مسلم : من حديث الشعبي ، عن علقمة قال: "سألت ابن مسعود: هل شهد منكم أحد مع رسول الله - عليه السلام -[ليلة الجن] ؟ قال: لا .. " الحديث.

                                                [ ص: 282 ] وفي لفظ له قال: "لم أكن مع النبي - عليه السلام - ليلة الجن، وودت أني كنت معه".

                                                وما روى أبو داود : عن علقمة قال: "قلت لابن مسعود: من كان منكم مع النبي - عليه السلام -[ليلة الجن] ؟ قال: ما كان معه منا أحد ".

                                                ورواه الترمذي : أيضا في تفسير سورة الأحقاف، ورواه الطحاوي أيضا، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

                                                قلت: هذا الحديث رواه جماعة عن أبي فزارة؛ فرواه عنه شريك كما أخرجه الترمذي وأبو داود .

                                                ورواه عنه سفيان والجراح بن مليح كما أخرجه ابن ماجه .

                                                ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" ، ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجه عبد الرزاق أيضا .

                                                والجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعدا، فأين الجهالة بعد ذلك؟! إلا أن يراد جهالة الحال؛ هذا وقد صرح ابن عدي بأنه راشد بن كيسان فقال: مدار هذا الحديث على أبي فزارة عن أبي زيد ، وأبو فزارة اسمه راشد بن كيسان وهو مشهور، وأبو زيد عمرو بن حريث مجهول.

                                                وحكي عن الدارقطني أنه قال: أبو فزارة، في حديث النبيذ، اسمه راشد بن كيسان .

                                                [ ص: 283 ] وقال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب": أبو فزارة العبسي راشد بن كيسان ثقة عندهم.

                                                وقولهم أيضا "أبو زيد مجهول" فيه نظر من حيث أن أربعة عشر رجلا رووه عن عبد الله بن مسعود كما رواه أبو زيد [1\ق157-ب] مع النبي - عليه السلام - في خبر أجمع الفقهاء على العمل به، وهو "أنه طلب منه ثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة ... " الحديث، وقال ابن العربي: في البعض صحبه، واستوقفه وبعد عنه - عليه السلام -، ثم عاد إليه فصح أنه لم يكن معه غير الجن، لا نفس الخروج.

                                                وفي "البدائع" : ولأبي حنيفة ما روى ابن مسعود أنه قال: "كنا أصحاب النبي - عليه السلام - جلوسا في بيته، فدخل علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: ليقم منكم من ليس في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقمت -وفي رواية: فلم يقم منا أحد ، فأشار إلي بالقيام، فقمت- ودخلت البيت فتزودت إداوة من نبيذ، فخرجت معه، فخط لي خطا، فقال: إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة، فقمت قائما حتى انفجر الصبح، فإذا أنا برسول الله - عليه السلام - وقد عرق جبينه كأنه [حارب جنا] ، فقال لي: يا ابن مسعود، هل معك ما أتوضأ به؟ فقلت: لا إلا نبيذ تمر في إداوة، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. فأخذ ذلك وتوضأ وصلى الفجر".

                                                وكذا جماعة من الصحابة منهم: علي وابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - كانوا يجوزون التوضؤ بنبيذ التمر.

                                                وروي عن النبي - عليه السلام -: "توضئوا بنبيذ التمر، ولا توضئوا باللبن".

                                                وروي عن أبي العالية أنه [قال] : "كنت في جماعة من أصحاب رسول الله - عليه السلام -

                                                [ ص: 284 ] في سفينة في البحر، فحضرت الصلاة ففني ماؤهم، ومعهم نبيذ التمر، فتوضأ بعضهم بماء البحر وكره الوضوء بنبيذ التمر، وتوضأ بعضهم بنبيذ التمر وكره الوضوء بماء البحر" وهذا حكاية لا إجماع، فإن من كان يتوضأ بماء البحر كان يعتقد [جواز] التوضؤ بماء البحر، فلم يتوضأ بالنبيذ لكونه واجدا للماء المطلق، ومن كان يتوضأ بالنبيذ كان لا يرى ماء البحر طهورا وكان يقول هو سخطة ونقمة، كأنه لم يبلغه قوله - عليه السلام - في صفة البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته" فيتوضأ بنبيذ التمر لكونه عادما للماء الطاهر.

                                                وبه تبين أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة، حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار موجبا علما استدلاليا، كخبر المعراج، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأخبار الرؤية والشفاعة، وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ثم اشتهر وتلقته العلماء بالقبول، ومثله مما ينسخ به الكتاب، انتهى.

                                                قلت: قد عملت الصحابة بهذا الحديث على ما في "سنن الدارقطني" : عن عبد الله بن [محرر] ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "النبيذ وضوء من لم يجد الماء".

                                                وأخرج أيضا : عن الحارث ، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ".

                                                وروى أيضا في "سننه" : من حديث مجاعة ، عن أبان ، عن عكرمة ، عن [ ص: 285 ] ابن عباس قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد النبيذ فليتوضأ به" قال: المحفوظ من قول عكرمة، غير مرفوع إلى النبي - عليه السلام - ولا إلى ابن عباس .

                                                وقال البيهقي: هذا حديث واه.

                                                قلت: (هذا) مجرد دعوى منه فلا تقبل.

                                                وقال أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن": روى الوضوء بالنبيذ عن النبي - عليه السلام - أبو أمامة - رضي الله عنه - أيضا.

                                                فإن قيل: هذا الحديث من أخبار الآحاد، ورد على مخالفة الكتاب، ومن شرط ثبوت خبر الآحاد ألا يخالف الكتاب، فإذا خالف لا يثبت، أو يثبت لكنه نسخ؛ لأنه كان بمكة ، وهذه الآية -أعني قوله تعالى: تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا نزلت بالمدينة ، وقال ابن القصار من المالكية، وابن حزم: من ذهب إلى أنه وإن صح يكون منسوخا؛ لأنه كان بمكة ، ونزول قوله تعالى: تجدوا ماء كان بالمدينة . وقال ابن حزم : "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة ".

                                                قلت: قد ذكر لك أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول، فصار موجبا علما استدلاليا، ومثله مما ينسخ به الكتاب.

                                                مع أنه لا حجة لهم في الكتاب؛ لأن عدم نبيذ التمر في الأسفار، يسبق عدم الماء عادة؛ لأنه أعسر وجودا من الماء، وتعليق جواز التيمم بعدم الماء تعليق بعدم النبيذ دلالة. فكأنه قال: فلم تجدوا [1\ق158-أ] ماء، ولا نبيذ تمر، فتيمموا، إلا أنه لم ينص عليه لثبوته عادة.

                                                يؤيد هذا ما ذكرنا من فتاوى نجباء الصحابة - رضي الله عنهم - في زمان استد فيه باب الوحي، وأنهم كانوا أعرف الناس بالناسخ والمنسوخ، فتبطل دعوى النسخ.

                                                [ ص: 286 ] وقول ابن حزم : "نزول أمر الوضوء كان بالمدينة "، يرده ما ذكره الطبراني في "الكبير" والدارقطني "أن جبريل - عليه السلام - نزل على رسول الله - عليه السلام - بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء".

                                                وقال السهيلي: الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "آية التيمم"، ولم تقل "الوضوء"؛ لأن الوضوء كان مفروضا قبل، غير أنه لم يكن قرآنا يتلى حتى نزلت آية التيمم.

                                                وقال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستدل بقوله تعالى: قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين.

                                                أحدهما: قوله تعالى: وجوهكم وأيديكم عموم في جميع المائعات؛ لأنه يسمى غاسلا بها، إلا ما قام الدليل فيه، ونبيذ التمر مما قد شمله العموم.

                                                الثاني: قوله: تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا بغيره، أو منفردا بنفسه، ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر: ماء، فلما كان كذلك وجب ألا يجوز التيمم مع وجوده، بالظاهر.

                                                ويدل على ذلك أن النبي - عليه السلام - توضأ بمكة قبل نزول الآية في التيمم، وقبل أن نقل من الماء إلى بدل، فدل على أنه توضأ به، على أنه بقي حكم الماء الذي فيه، لا على وجه البدل عن الماء؛ إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة مقصورة على الماء بدون غيره، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية