الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                743 744 745 [ ص: 504 ] ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- ما قد بين ذلك أيضا:

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال: نا مسدد ، قال: أنا يحيى بن سعيد ، عن زهير ، قال: أخبرني أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنت مع النبي -عليه السلام- فأتى الغائط فقال: ائتني بثلاثة أحجار فالتمست فلم أجد إلا حجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس".

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا زهير بن عباد ، قال: نا يزيد بن عطاء ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة والأسود، قالا: قال ابن مسعود ... ، فذكر نحوه.

                                                ففي هذا الحديث ما يدل أن النبي -عليه السلام- قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار؛ لقوله لعبد الله: : ناولني ثلاثة أحجار، ولو كان بحضرته شيء من ذلك لما احتاج إلى أن يناوله من . غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وأخذ الحجرين، دل ذلك على استعماله الحجرين، . وعلى أنه قد رأى أن الاستحجار لهما يجزئ مما يجزئ منه الاستجمار بالثلاث؛ لأنه لو كان لا يجزئ للاستحجار بما دون الثلاث لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثا. ففي ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن ابن مسعود ، عن النبي -عليه السلام- ما قد بين ما قلنا من أن الأمر بالإيتار في الآثار المذكورة أمر ندب لا أمر وجوب، وذلك ظاهر لا يخفى.

                                                حاصله أن العدد لو كان شرطا، لسأل النبي -عليه السلام- ابن مسعود ثالثا؛ فحين اكتفى بالاثنين، ولم يسأل الثالث، علمنا أن المعتبر في هذا الباب الإنقاء دون العدد، ولا ينكر هذا إلا معاند.

                                                ثم إنه أخرج حديث ابن مسعود من طريقين:

                                                الأول: عن أحمد بن داود ، عن مسدد، أحد مشايخ البخاري وغيره، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن زهير بن معاوية بن حديج الكوفي، أحد أصحاب

                                                [ ص: 505 ] أبي حنيفة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن عبد الرحمن بن الأسود بن [يزيد]، بن قيس النخعي ، عن أبيه الأسود بن يزيد، وكلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد بن داود .

                                                وأخرجه البخاري، نا أبو نعيم، نا زهير ، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه، سمع عبد الله يقول: "أتى رسول الله -عليه السلام- الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال. هذا ركس".

                                                وأخرجه النسائي، نا أحمد بن سليمان، نا أبو نعيم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ... إلى آخره، نحو رواية البخاري، وفي آخره قال أبو عبد الرحمن: "الركس طعام الجن".

                                                وأخرجه ابن ماجه، نا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا يحيى بن سعيد القطان ، عن زهير ، عن أبي إسحاق، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه الترمذي من حديث أبي عبيدة: نا هناد وقتيبة، قالا: نا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال: "خرج النبي لحاجته، فقال: التمس لي ثلاثة أحجار، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: إنها ركس".

                                                [ ص: 506 ] الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود ، عن زهير بن عباد الرؤاسي، ابن عم وكيع بن الجراح ، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الكندي، فيه مقال، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي ، عن علقمة بن قيس النخعي، وعن الأسود بن يزيد النخعي ، عن ابن مسعود .

                                                وأخرجه الدارقطني: نا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بهلول، حدثني جدي، ثنا أبي، عن أبي شيبة ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله قال: "خرجت يوما مع رسول الله -عليه السلام- قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، قال: فأتيته بحجرين وروثة، قال: فألقى الروثة وقال: إنها ركس فأتني بغيرها".

                                                وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث علقمة بإسناد صحيح، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا زياد بن الحسن بن فرات عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن علقمة ، عن عبد الله، قال: "أراد النبي -عليه السلام- أن يتبرز، فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين، وطرح الروثة، وقال: هي رجس".

                                                فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟

                                                قلت: صحيح كما ترى.

                                                فإن قلت: قال ابن الشاذكوني: هذا الحديث مردود؛ لأنه مدلس؛ لأن السبيعي لم يصرح فيه بسماع، ولم يأت بصيغة معتبرة، وما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا، ولا أخفى. قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن ، عن فلان، ولم يقل: حدثني، فجاز الحديث وسار.

                                                قلت: أبو إسحاق سمعه من جماعة، ولكنه كان غالبا إنما يحدث به عن أبي عبيدة، فلما نشط يوما قال: ليس أبو عبيدة الذي هو في ذهنكم أني حدثتكم

                                                [ ص: 507 ] عنه حدثني وحده، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، ولعل البخاري لم ير ذلك متعارضا وجعلهما إسنادين، أو أسانيد.

                                                وذكر الكرابيسي في كتاب "المدلسين": أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرة: حدثني عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله، ومرة حدثني علقمة ، عن عبد الله، ومرة حدثني أبو عبيدة ، عن عبد الله، ومرة يقول: ليس أبو عبيدة حدثنيه، حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن عبد الله، وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعا فافهم.

                                                وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: اختلفوا في هذا الحديث، والصحيح عندي حديث أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه.

                                                وزعم الترمذي أن أصح الروايات عنده حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة ، عن عبد الله، قال: لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس ، وزهير [في] أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بأخرة، سمعت أحمد بن الحسن، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة ، وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما، إلا حديث أبي إسحاق .

                                                ورواه زكرياء بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله، وهذا حديث فيه اضطراب، قال: وسألت الدارمي أي الروايات في هذا أصح عن أبي إسحاق؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدا عن هذا فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير أشبه، ووضعه في جامعه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، ولا نعرف اسمه. انتهى كلامه.

                                                [ ص: 508 ] قلت: في كلامه نظر من وجوه:

                                                الأول: ترجيحه حديث إسرائيل على حديث زهير، وهو معارض بما حكاه الإسماعيلي في صحيحه؛ إذ رواه من حديث يحيى بن سعيد ، ويحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير ، عن أبي إسحاق، ما ليس بسماع لأبي إسحاق .

                                                وكذلك رواية أبي جعفر الطحاوي حيث رواه من حديث يحيى بن سعيد ، عن زهير ، عن أبي إسحاق .

                                                وقال الآجري: سألت أبا داود ، عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق؟ فقال: زهير فوق إسرائيل بكثير.

                                                وتابعه إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه كما قال البخاري في آخر الحديث المذكور، وقال إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه، عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن، وتابعه أبو حماد الحنفي ، وأبو مريم ، وشريك وزكرياء بن أبي زائدة، كذا قاله الدارقطني .

                                                الثاني: إسرائيل اختلف عليه؛ فرواه كرواية زهير، ورواه عباد القطواني ، وخالد العبدي ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله. وروى الحميدي ، عن ابن عيينة عنه، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد، ذكره الدارقطني والعدني في "مسنده"، وزهير لم يختلف عليه.

                                                الثالث: اعتماده على متابعة قيس بن الربيع، وهي لا شيء لشدة ما رمي به من نكارة الحديث والضعف، وإضرابه عن متابعة يونس والثوري، وهما هما.

                                                الرابع: قوله: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه مردود، وقال أبو بكر بن أبي داود: قلت لأبي: أبو عبيدة سمع من أبيه، قال: يقال: إنه لم يسمع منه قلت: فإن عبد الواحد بن زياد يروي عن أبي مالك الأشجعي ، عن عبد الله بن أبي هند ، عن أبي عبيد قال: "خرجت مع أبي لصلاة الصبح" فقال لي: ما أدري ما هذا، وما أدري ابن أبي هند من هو.

                                                [ ص: 509 ] وفي "المعجم الأوسط" للطبراني: من حديث زياد بن سعد ، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن [خباب] الكوفي، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول: "كنت مع النبي -عليه السلام- في سفر... " الحديث.

                                                وأخرج الحاكم في "مستدركه" حديث أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه في ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم صححه.

                                                وكذلك الترمذي حسن عدة أحاديث رواها أبو عبيدة ، عن أبيه عبد الله، منها: "كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف"، ومن شرط الحديث أن يكون متصلا عن المحدثين.

                                                الخامس: قوله: "وأبو عبيدة لم يعرف اسمه"، يرده ما ذكره مسلم في كتاب "الكنى"، وابن حبان في كتاب "الثقات"، وأبو أحمد في "الكنى"، وغيرهم أن اسمه عامر .

                                                السادس: أنه أضرب عن الحديث المتصل الصحيح إلى منقطع - على زعمه - وهو قول الدارقطني: ثنا عمر بن أحمد الدقاق، نا محمد بن عيسى بن حبان، ثنا الحسن بن قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، وأبي الأحوص ، عن ابن مسعود فذكره.

                                                [ ص: 510 ] السابع: قوله: "ورواه زكرياء بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله"، ولم يزد على ذلك شيئا، وليس كذلك فإن زكرياء روي عنه هذا على وجوه: منها رواية عبد الرحيم ، والأزرق ، وإسماعيل بن أبان .

                                                ومنها رواية سهل ، عن يحيى، عنه، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه، وقيل: عن منجاب ، عن يحيى، عنه، عن أبيه، عن أبي إسحاق ، عن الأسود، لم يذكر بين أبي إسحاق والأسود أحدا ، فيما ذكره الدارقطني .

                                                قال: ورواه عمار بن رزيق ، وورقاء ، ومعتمر ، وسليمان بن قرم ، وإبراهيم الصائغ ، وعبد الكبير بن دينار ، وأبو شيبة ، ومحمد بن جابر ، وشعبة بن الحجاج ، وصباح بن يحيى المزني ، وروح بن مسافر ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله، وكذلك قال إسحاق الأزرق ، عن شريك، وروي عن علي بن صالح بن حي ، ومالك بن مغول ، ويوسف بن أبي إسحاق ، وحديج بن معاوية ، وشريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأسود ، عن عبد الله، ورواه أبو سنان ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة بن يريم ، عن عبد الله وقفه شعبة ، وسفيان، ورفعه عنه الثوري، وغيره، قال الدارقطني: قد اختلف فيه على أبي إسحاق اختلافا شديدا، والله أعلم.

                                                وتعلقت الظاهرية بنص هذا الحديث أن الأحجار متعينة في الاستنجاء، لا يجزئ غيرها. والإجماع على أن الحجر ليس بمتعين، بل يقوم الخزف، والخشب، والمدر، والتراب، ونحوها مقامه؛ لأن المعنى فيه كونه مزيلا، وقد يحصل ذلك بغير الحجر، وإنما نص -عليه السلام- على الحجر لكونه الغالب المتيسر.

                                                [ ص: 511 ] ويدل على عدم تعينه أيضا نهيه -عليه السلام- عن العظم، والبعر، والرجيع؛ فلو كان معينا لنهى عما سواه مطلقا.




                                                الخدمات العلمية