الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                755 ص: حدثنا ربيع الجيزي ، قال: نا أحمد بن محمد الأزرقي ، قال: نا عمرو بن يحيى بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: "اتبعت النبي -عليه السلام- وخرج في حاجة له، وكان لا يلتفت، فدنوت، فاستأنست وتنحنحت، فقال: من هذا، [ ص: 525 ] فقلت: أبو هريرة، ، فقال: يا أبا هريرة، أبغني أحجارا أستطيب بهن، ولا تأتني بعظم ولا روث، قال: فأتيته بأحجار أحملها في ملاءتي، فوضعتها إلى جنبه، ثم أعرضت عنه، فلما قضى حاجته، اتبعته فسألته عن الأحجار، والعظم، والروثة، فقال: إنه جاءني وفد جن نصيبين - ونعم الجن هم - فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليه طعاما".

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح على شرط البخاري ، وأحمد بن محمد بن الوليد ، وأبو محمد المكي الأزرقي أحد مشايخ البخاري ، وعمر بن يحيى بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي المكي .

                                                وأخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث عمرو ، عن جده، عن أبي هريرة ... إلى آخره، نحوه سواء.

                                                وأخرجه البخاري مختصرا: نا أحمد بن [محمد]، المكي، نا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي ، عن جده، عن أبي هريرة قال: "اتبعت النبي - عليه السلام، وخرج لحاجته، فكان لا يلتفت، فدنوت منه، فقال: أبغني أحجارا أستنفض بها - أو نحوه - ولا تأتني بعظم ولا بروث فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه، وأعرضت عنه، فلما قضى حاجته أتبعه بهن".

                                                قوله: "اتبعت النبي -عليه السلام- " قال ابن سيده: تبع الشيء تبعا، وتباعا، واتبعه، وأتبعه، وتتبعه: قفاه، وقيل: اتبع الرجل سبقه فلحقه، وتبعه تبعا، واتبعه مر به فمضى معه، وفي التنزيل: ثم أتبع سببا ومعناه: تبع، وقرأ أبو عمرو "ثم اتبع سببا" أي لحق وأدرك، واستتبعه طلب إليه أن يتبعه، والجمع تبع، وتباع،

                                                [ ص: 526 ] وتبعه، وتبع، وفي "الأفعال" لابن طريف: المشهور: تبعته: سرت في أثره، واتبعته لحقته، ولذلك فسر في التنزيل فأتبعوهم مشرقين أي: لحقوهم.

                                                وفي "الصحاح" تبعت القوم تبعا، وتباعا وتباعة - بالفتح - إذا مشيت، أو مروا بك فمضيت معهم، قال الأخفش: تبعته، واتبعته بمعنى، مثل: ردفه، وأردفه.

                                                قوله: "وخرج في حاجة له" جملة وقعت حالا.

                                                قوله: "أبغني أحجارا"، قال أبو علي الهجري في "أماليه": بغيت الخير بغاء، وقال أبو الحسن اللحياني في "نوادره": يقال: بغى الرجل الحاجة والعلم والخير وكل شيء يطلب، يبغى بغاء، وبغية و: (بغى) وبغية وبغي واستبغى القوم يبغوه، وبغوا له أي طلبوا له، وفي الحكم المعروف بغاء - يعني بالضم - والاسم البغية، والبغية ما ابتغي، وأبغاه الشيء طلب له أو أعانه على طلبه، والجمع بغاة، وبغيان، وابتغى الشيء تيسر، وتسهل، وبغى الشيء بغوا نظر إليه كيف هو، وفي "الجامع" للقزاز: ابغني كذا أي أعني عليه، واطلبه معي، وقيل: بغيتك الشيء طلبته لك، وأبغيتك أعنتك على بغيتك، وفي كتاب "الداعي" لعبد الحق الأشبيلي، والبغاء الطلب، وفي "الصحاح" كل طلبة بغاء بالضم، والمد، وبغاية أيضا، وأبغيتك الشيء جعلتك طالبا له، وابتغيت الشيء، وتبغيته إذا طلبته، قال ساعدة بن جوية الهذلي: سباغ تبغى الناس مثنى وموحدا.

                                                قوله: "أستطيب بهن" صفة للأحجار أراد أستنجي بهن، من الاستطابة، وهي طلب النظافة، والطهارة، وكذلك الإصابة.

                                                قوله: "أحملها في ملاءتي" جملة حالية والملاءة بضم الميم الإزار، وذكره الجوهري في باب المهموز، وقال: الملاءة بالضم ممدود: الريطة، والجمع: ملاء.

                                                [ ص: 527 ] قوله: "وفد جن نصيبين" الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد، وواحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد، وانتجاع وغير ذلك، تقول: وفد، يفد فهو وافد، وأوفدته يوفد، وأوفد على الشيء فهو موفد إذا أشرف. و: "نصيبين" بفتح النون، وكسر الصاد المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ثم باء موحدة مكسورة، وياء ثانية ساكنة، ونون، وهي قاعدة ديار ربيعة، مخصوصة بالورد الأبيض، ولا يوجد فيها وردة حمراء، وفي شماليها جبل كبير منه ينزل نهرها، ويمر على سورها، والبساتين عليه، وهي شمال سنجار، وجبل نصيبين هو الجودي، وهو الذي استوت سفينة نوح -عليه السلام- عليه، ويقال يسمى نهرها الهرماس، وبها عقارب قاتلة.

                                                قوله: "إلا وجدوا عليه": على كل واحد من العظم والروث، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون طعامهم من العظم والروث، كما جاء في حديث آخر أخرجه أبو داود ، عن حيوة بن شريح ، عن ابن عياش ، عن يحيى بن [أبي] عمرو السيباني ، عن عبد الله بن الديلمي ، عن عبد الله بن مسعود، قال: "قدم وفد الجن على رسول الله -عليه السلام-، فقالوا: يا محمد، انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقا، قال فنهى النبي -عليه السلام- [عن ذلك] ".

                                                وظاهر هذا الحديث أيضا أن رزقهم من هذه الأشياء؛ فلذلك منع النبي عن الاستنجاء بها، وكذلك حديث ابن مسعود الذي مر ذكره عن قريب: "لا تستنجوا بعظم ولا روث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن"، يقتضي ما ذكرنا، والدليل القاطع على ذلك ما جاء في رواية مسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم" والضمير يرجع إلى العظم، والبعرة.

                                                [ ص: 528 ] فإن قيل: كيف يكون التوفيق بين هذا، وبين قوله في رواية الترمذي: "وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم"، وكذا في رواية الطحاوي، و: "البعر علفا لدوابكم"؟

                                                قلت: التوفيق بين الكلامين: أن العظم زادهم خاصة، وأن الروث، والبعر مشتركان بينهم وبين دوابهم، يدل على ذلك قرائن الكلام والحال، فافهم.

                                                قوله: "أستنفض بها" في رواية البخاري أي: أستنجي بها، وهو من نفض الثوب؛ لأن المستنجي ينفض عن نفسه الأذى بالحجر أي: يزيله ويدفعه، وجاء في السنن العشر انتقاص الماء بالقاف والصاد المهملة يريد انتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به. وقيل: هو الانتضاح بالماء، ويروى بالفاء والمعجمة.




                                                الخدمات العلمية