الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          628 626 - ( مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عياض بن عبد الله بن سعد ) بإسكان العين ( ابن أبي سرح ) بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة ، القرشي ( العامري ) المكي من كبار التابعين مات على رأس المائة ( أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : كنا نخرج زكاة الفطر ) قال عياض : مذهب مالك والشافعي أن قول الصحابي " كنا نفعل كذا " من قبيل المرفوع ؛ لأنه أضافه إلى زمنه صلى الله عليه وسلم ، والسنة قوله وفعله وإقراره وهذا إقراره ، وأما الرواية التي فيها إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأخرى في عهد رسول الله فلا خلاف أنها مسندة ؛ أي : مرفوعة لا سيما في هذه الصدقة التي كانت تجمع عنده ، ويأمر بقبضها ودفعها ، ا هـ .

                                                                                                          ( صاعا من طعام ) أي : حنطة ، فإنه اسم خاص له ، وبدليل ذكر الشعير وغيره من الأقوات ، والحنطة أعلاها ، فلولا [ ص: 220 ] أنه أرادها بذلك لذكرها عند التفصيل كغيرها ، ولا سيما حيث عطفت عليها بحرف " أو " الفاصلة ، وقد كان الطعام يستعمل في الحنطة عند الإطلاق ، حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح ، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه ؛ لأن ما غلب استعماله ، خطوره عند الإطلاق أغلب ؛ كذا قاله الخطابي وغيره ، بل حكى بعضهم اتفاق العلماء على ذلك ، لكن قال ابن المنذر : غلط من ظن أنه الحنطة ؛ لأن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره فقال : كنا نخرج صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر كما في الصحيح ، زاد الطحاوي : ولا نخرج غيره ، قال : وفي قوله : " ولما جاء معاوية وجاءت السمراء دليل على أنها لم تكن لهم قوتا قبل هذا ولا كثيرة ، ولا نعلم في الفتح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه ، ولم يكن البر يومئذ بالمدينة إلا الشيء اليسير منه ، فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن قوتا موجودا ؟ وأيده الحافظ بروايات ، ثم قال : فهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام غير الحنطة ، فيحتمل أنه الذرة فإنه المعروف عندأهل الحجاز وهي قوت غالب لهم .

                                                                                                          وقد روى الجوزقي عن أبي سعيد : " صاعا من تمر صاعا من سلت أو ذرة .

                                                                                                          وقال الكرماني : يحتمل أن قوله أو صاعا من شعير . . . إلخ ، بعد قوله : " من طعام " من عطف الخاص على العام ، لكن محله أن يكون الخاص أشرف وليس الأمر هنا كذلك .

                                                                                                          ( أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر ) أو للتقسيم لا للتخيير لاقتضائه أن يخرج الشعير من قوته أو التمر مع وجوده وليس كذلك .

                                                                                                          ( أو صاعا من أقط ) بفتح الهمزة وكسر القاف وهو لبن فيه زبدة .

                                                                                                          ( أو صاعا من زبيب ) فيخرج من أغلب القوت من هذه الخمس ، وخالف في البر والزبيب من لا يعتد بخلافه ، فقال : لا يخرج منهما ، ورده الباجي وعياض بالإجماع السابق عليهما ، وقاس عليها مالك ما في معناها وهو الأرز والدخن والذرة والسلت ، وأجاز مالك إخراجها من الأقط وأباه الحسن ، واختلف فيه قول الشافعي ، وكيف هذا مع نص الحديث عليه ( وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو أربعة أمداد ، والمد رطل وثلث عند مالك والشافعي والجمهور ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : المد رطلان والصاع ثمانية أرطال ، ثم رجع أبو يوسف إلى قول الجمهور لما تناظر مع مالك فأراه الصيعان التي توارثها أهل المدينة عن أسلافهم من زمنه صلى الله عليه وسلم ، زاد البخاري من رواية سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عياض ، عن أبي سعيد : " فلما جاء معاوية " .

                                                                                                          وفي رواية مسلم : " فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر " ، زاد ابن خزيمة : " وهو يومئذ خليفة ، وجاءت السمراء قال : أرى مدا من هذا يعدل مدين " ، ولمسلم : " أرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر " ، وبهذا ونحوه تمسك الحنفية في أن الواجب في القمح مدان لكن لم يوافق معاوية على [ ص: 221 ] ذلك .

                                                                                                          ففي مسلم ؛ قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت . وله من وجه آخر فأنكر ذلك أبو سعيد وقال : لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولأبي داود : لا أخرج أبدا إلا صاعا .

                                                                                                          وللدارقطني وابن خزيمة والحاكم : فقال له رجل مدين من قمح ؟ فقال : لا ؛ تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها . ولابن خزيمة : فكان ذلك أول ما ذكر الناس المدين ، وهذا يدل على وهن ما ذكر عن عمر وعثمان أنهما قالا بالمدين فليس في المسألة إجماع سكوتي ، خلافا للطحاوي ، قال النووي : وتمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر ؛ لأنه فعل صحابي قد خالف فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك الاجتهاد مع النص .

                                                                                                          وفي فعل معاوية ومن وافقه دلالة على جواز الاجتهاد وهو محمود لكنه مع النص فاسد الاعتبار ، فالأشياء المذكورة في حديث أبي سعيد متساوية في مقدار ما يخرج منها متخالفة في القيمة ، وذلك يدل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان ، فلا فرق بين الحنطة وغيرها ، وأما جعل نصف صاع من الحنطة بدل صاع من غيرها ، فهو اجتهاد مبني على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية ، وكانت الحنطة غالية الثمن إذ ذاك ، لكن يلزم على ذلك اعتبار القيمة في كل زمان فيختلف الحال ولا ينضبط ، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة .

                                                                                                          وأما قول ابن عمر في الصحيحين : " أمر صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير " ، فجعل لناس عدله مدين من حنطة ، فمراده بالناس معاوية ومن تبعه لا جميع الصحابة كما فهم الطحاوي فلا إجماع ، وقد صرح بذلك في رواية الحميدي وابن خزيمة بلفظ : " صدقة الفطر صاع من شعير أو صاع من تمر ، فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع من بر بصاع من شعير " ، وما رواه أبو داود من طريق عبد العزيز بن رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر : فلما كان عمر كثرت الحنطة فجعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء " فقد حكم مسلم في كتاب التمييز بوهم عبد العزيز ، وأوضح الرد عليه ، وقال ابن عبد البر : الأول أولى ، ا هـ . ملخصا من فتح الباري .

                                                                                                          وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ، وله طرق في الصحيحين وغيرهما بزيادات .




                                                                                                          الخدمات العلمية