الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال رجل لعلي كرم الله وجهه يا أمير المؤمنين ، صف لنا الدنيا قال : وما أصف لك من دار من صح فيها سقم ومن أمن ، فيها ندم ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن استغنى فيها افتتن ، في حلالها الحساب ، وفي حرامها العقاب ومتشابهها العتاب وقيل له ذلك مرة أخرى فقال : أطول أم أقصر ، فقيل : قصر ، فقال : حلالها حساب ، وحرامها عذاب وقال مالك بن دينار اتقوا السحارة ، فإنها تسحر قلوب العلماء ; يعني الدنيا .

وقال أبو سليمان الداراني إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة ، والدنيا لئيمة وهذا تشديد عظيم ، ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح ; إذ قال : الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب ، فأيهما غلب كان الآخر تبعا له وقال مالك بن دينار بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك ، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال الدنيا والآخرة ضرتان ، فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى وقال الحسن والله لقد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه ، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت ، ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا وقال رجل للحسن ما تقول في رجل آتاه الله مالا ، فهو يتصدق منه ، ويصل منه أيحسن له ، أن يتعيش فيه يعني يتنعم ؟ فقال : لا لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ، ويقدم ذلك ليوم فقره وقال الفضيل لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالا لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل لما : قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل فسلم وسأله ، ثم أتى منزله ، فلم ير فيه إلا سيفه ، وترسه ، ورحله ، فقال له عمر رضي الله عنه : لو اتخذت متاعا ? فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا يبلغنا المقيل .

التالي السابق


(وقال رجل لعلي بن أبي طالب) - رضي الله عنه -: (يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا، فقال: وما أصف لك من دار من صح فيها ما أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العذاب) .

أخرجه ابن أبي الدنيا [ ص: 94 ] في ذم الدنيا، وكذلك ذكره صاحب نهج البلاغة، ولفظه: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن، من سعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته .

(وقيل له ذلك مرة أخرى) ، أي: سؤال وصف الدنيا (فقال: أطول أم أقصر، فقيل: قصر، فقال: حلالها حساب، وحرامها عذاب) .

أخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، وسيأتي ذلك في المرفوع، (وقال مالك بن دينار) البصري - رحمه الله تعالى -: (اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء; يعني الدنيا) .

رواه صاحب الحلية من طريق سيار بن حاتم العنزي بن سلمة البصري، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، وفي ترجمة مالك بن دينار: اتقوا السحارة، مرة واحدة، وفي ترجمة جعفر بن سليمان، عن مالك مرتين. ا ه .

(وقال أبو سليمان) الداراني - رحمه الله تعالى -: (إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها) للؤمها (فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة) لكرمها (لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة) نقله صاحب القوت، وقال: معناه أن يسير الدنيا يخرج كثير الآخرة، وكثير من شأن الآخرة لا يخرج يسيرا من الدنيا، وإن كثيرا من أمر الآخرة قد يزيله قليل من أمر الدنيا، وإن قليلا من أمر الدنيا قد لا يزيله الكثير من أمر الآخرة; هذا لعزة شأن الآخرة، وقلة النصيب منها، وللؤم شأن الدنيا، ودناءتها، وكثرة النصيب منها، وعظم البلوى بها .

قال المصنف: (وهذا تشديد عظيم، ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم) كذا في النسخ كلها، والصواب سيار أبو الحكم العنزي الواسطي البصري، وهو سيار بن أبي سيار، واسمه وردان، وقيل: ورد، وقيل: دنيار، ويقال: إنه أخو شاور الوراق لأمه، قال أحمد: صدوق ثقة ثبت في كل المشايخ، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال الحافظ ابن حجر: وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب.

مات سنة 122، روى له الجماعة (أصح; إذ قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب، فأيهما غلب كان الآخر تبعا له) ، أي: فالحكم للغالب، وهذا لا يمنع مزاحمة الدنيا مع الآخرة (وقال مالك بن دينار) البصري - رحمه الله تعالى -: (بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك) نقله صاحب القوت (وهذا اقتباس مما قاله علي - رضي الله عنه - حيث قال) في تشبيه الدنيا والآخرة: (الدنيا والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى) ، وقد روي ذلك أيضا من قول وهب بن منبه كما في الحلية، ومثله قول عون بن عبد الله المسعودي: الدنيا والآخرة في العبد ككفتي الميزان ترجح إحداهما، فتخف الأخرى .

(وقال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (والله قد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أم ذهبت إلى ذا) نقله صاحب القوت .

(وقال رجل للحسن) البصري (ما تقول في رجل آتاه الله مالا، فهو يتصدق منه، ويصل منه، ويحسن فيه، أله أن يتعيش فيه - يعني التنعم -؟ فقال: لا) يجوز له (لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف، ويقدم ذلك ليوم فقره) نقله صاحب القوت بلفظ: سئل عن الرجل يوسع عليه في رزقه، هل له أن يتسع في الشهوات، فقال: لا والله، إذ لو كانت له الدنيا لم يكن ينبغي أن يأخذ من ماله إلا للحاجة، والكفاية من غير سرف، ولا تبذير، ويقدم فضول ذلك لآخرته ذخيرة له. ا ه .

والكفاف هو ما يكف به نفسه، فيما لا بد له منه، فهذا هو الذي لا يعد من الدنيا .

(وقال الفضيل) بن عياض - رحمه الله تعالى -: (لو أن الدنيا بحذافيرها) ، أي: بجملتها (عرضت علي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة كنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن جعفر بن يوسف، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن يزيد، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل يقول: فذكره .

(وقيل: قدم عمر - رضي الله عنه - الشام) قدمته الأولى (فاستقبله أبو عبيدة) عامر (بن الجراح) - رضي الله عنه - (على ناقة مخطومة بحبل) ، أي: خطامها من حبل [ ص: 95 ] الليف (فسلم) عليه (وسأله، ثم أتى منزله، فلم ير فيه إلا سيفه، وترسه، ورحله، فقال له عمر - رضي الله عنه -: لو اتخذت متاعا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يبلغنا المقيل) ، قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن شبل، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، ح، وحدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر ، قالا: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، قال: دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح، فإذا هو مضطجع على طنفسة رحله، متوسد الحقيبة، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المقيل.

وقال معمر في حديثه: لما قدم عمر الشام تلقته الناس، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة؟ قالوا: الآن يأتيك، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله، ثم ذكر نحوه .




الخدمات العلمية