الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآثار ، قال علي كرم الله وجهه : إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد .


لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف     وإن تولت فأحرى أن تجود بها
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة ، والنجدة ، والكرم فقال أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحرزه نفسه وحسن قيامه بضيفه ، وحسن المسارعة والإقدام في الكراهية وأما النجدة : فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم : فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال : حاجتك مقضية فقيل له : يا ابن رسول الله ، لو نظرت في رقعته ، ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال : يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته ، وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ، ولا يشتري الأحرار بمعروفه وسئل بعض الأعراب : من سيدكم ? فقال : من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخيا ، وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ، ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاما وقيل للحسن البصري ما السخاء فقال : أن تجود بمالك في الله عز وجل قيل فما : الحزم ? قال : أن تمنع مالك فيه قيل : فما الإسراف ? قال : الإنفاق لحب الرياسة .

وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ، ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول : إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر ، وأهل الكفر في النار ، والجود والكرم من الإيمان ، وأهل الإيمان في الجنة .

وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلا في يده درهم فقال : لمن هذا الدرهم فقال : لي ، فقال : أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك ، وفي معناه قيل .


أنت للمال إذا أمسكته     فإذا أنفقته فالمال لك

وسمي واصل بن عطاء الغزال لأنه كان يجلس إلى الغزالين فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئا وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه : خير المال ما وقي به العرض وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء قال : السخاء البر بالإخوان والجود بالمال قال : وورث أبي خمسين ألف درهم ، فبعث بها صررا إلى إخوانه ، وقال : قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي ، أفأبخل عليهم بالمال ؟! وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود . وقيل لبعض الحكماء : من أحب الناس إليك ? قال : من كثرت أياديه عندي . قيل : فإن لم يكن ? قال : من كثرت أيادي عنده ، وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي مثل يدي عنده وقال المهدي لشبيب بن شيبة كيف رأيت الناس في داري ? فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الرجل منهم ليدخل راجيا ، ويخرج راضيا وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال .


إن الصنيعة لا تكون صنيعة     حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها     لله أو لذوي القرابة أو دع

فقال عبد الله بن جعفر : إن هذين البيتين ليبخلان الناس ولكن أمطر المعروف مطرا فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا ، وإن أصاب اللئام كنت له أهلا .

التالي السابق


(الآثار، قال علي - كرم الله وجهه -: إذا أقبلت الدنيا) إليك، فإن وفر مالك، وجاهك (فأنفق منها) لمن يستحق (فإنها لا تبقى) بإنفاقك مع الإقبال (وإذا أدبرت) عنك، وولت (فأنفق منها) أيضا (فإنها لا تبقى) ، فالإنفاق منها محمود على كل حال (وأنشد) :


(لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها
فالحد منها إذا ما أدبرت خلف)

(وسأل معاوية) بن أبي سفيان (الحسن بن علي) - رضي الله عنهما - (عن المروءة، والنجدة، والكرم) ما حدها؟ (فقال) الحسن: (أما المروءة فحفظ الرجل دينه) عما لا يليق به (وحرزه نفسه) عن الذهول، والدناءة (وحسن قيامه) ، أي: التعهد (بضيفه، وحسن المسارعة والإقدام في الكراهية) ، أي: فيما تكرهه النفس، وهذه الأوصاف هي المعبر عنها بالإنسانية (وأما النجدة: فالذب) ، أي: الدفع والمنع (عن الجار) بأن لا يوطئ جاره بما يكره، (والصبر في المواطن) ، أي: مواطن الشدة (وأما الكرم: فالتبرع بالمعروف قبل السؤال) ، أي: يبتدئ به قبل أن يسأل (والإطعام في المحل) ، أي: وقت الجدب، وقلة المطر (والرأفة بالسائل) ، أي: الشفقة والرحمة بحاله (مع بذل النائل) ، أي: العطاء (ورفع رجل إلى) أبي عبد الله (الحسن بن علي) - رضي الله عنهما - (رقعة) يسأله فيها حاجة (فقال: حاجتك مقضية) ، وذلك قبل أن يقرأها (فقيل له: يا ابن رسول الله، لو نظرت في رقعته، ثم رددت الجواب على قدر ذلك؟ قال: يسألني الله - عز وجل - عن ذل مقامه) ، أي: وقوفه (بين [ ص: 180 ] يدي حتى أقرأ رقعته، وقال) محمد بن صبيح (ابن السماك) البغدادي الواعظ (عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بمعروفه) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية (وسئل بعض الأعراب: من سيدكم؟ فقال: من احتمل شتمنا) ، فلم يرد عليه بمثله (وأعطى سائلنا) بماله، ومعروفه (وأغضى) ، أي: سامح (عن جاهلنا) ، فلم يؤاخذه بجهله .

(وقال علي بن الحسين) زين العابدين - رضي الله عنه - (من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخيا، وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته، ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر إذا كان يقينه بثواب الله تاما) . أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقيل للحسن البصري) - رحمه الله تعالى -: (ما السخاء؟ قال: أن تجود بمالك في الله - عز وجل - قيل: وما الحزم؟ قال: أن تمنع مالك فيه) ، أي: في الله - عز وجل - (قيل: فما الإسراف؟ قال: الإنفاق) أكثر عائدة منه (ولا مصيبة أعظم من الجهل، ولا مظاهرة) ، وهي المعاونة (كالمشاورة) مع أهل الدين والرأي المتين (ألا وإن الله - عز وجل - يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم) ، أي: في دار كرامتي (واللؤم من الكفر، وأهل الكفر في النار، والجود والكرم من الإيمان، وأهل الإيمان في الجنة) ، وهو معنى الخبر السابق: السخاء شجرة من أشجار الجنة، واللؤم شجرة من أشجار النار .

(وقال حذيفة) بن اليمان - رضي الله عنه -: (رب فاجر في دينه) ، أي: ليس بدين (أخرق في معيشته) ، أي: لا يدري في أمور معيشته، ولا يحسن الصنعة (يدخل الجنة بسماحته) ، أي: بذله لماله. (ورأى الأحنف بن قيس رجلا في يده درهم) يقلبه (فقال: لمن هذا الدرهم؟ قال: لي، فقال: أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك، وفي معناه قيل) :


(أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك)

أي: إذا أحرزته عندك، فأنت بإزائه كالحارس له، والخائف عليه، فإذا أخرجته من يدك صار لك حيث قضى حاجتك، وسلمت من وباله، واسترحت من حراسته (وسمي واصل بن عطاء الغزال) ، وهي نسبة من يبيع الغزل، ولم يكن كذلك، ولكنه لقب به (لأنه كان يجلس إلى الغزالين) ، أي: عندهم في سوقهم (فإذا رأى امرأة ضعيفة) الحال أتت تشتري الغزل وهي فقيرة (أعطاها شيئا) من المال مواساة لها، فلكثرة ملازمته لهم لقب بالغزال، وواصل هذا هو الذي كان يختلف إلى الحسن البصري، فلما اختلفوا، وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر، وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون، وإن فسقوا بالكبائر، فخرج واصل عن الفريقين، وقال: فاسق هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين المنزلتين، فطرده الحسن، فاعتزله، وجلس إليه عمرو بن عبيد في باب مولى بلعدوية البصري من بني تميم، فقيل لهما ولأتباعهما المعتزلة، وكان عمرو ورعا مجتهدا إلا أنه يكذب في الحديث، وهما لا عمدا .

(وقال الأصمعي) عبد الملك بن سعيد بن قريب: (كتب الحسن بن علي إلى) أخيه (الحسين بن علي - رضي الله عنهما - يعتب عليه في إعطاء الشعراء) الأموال الجمة (فكتب إليه: خير المال ما وقي به العرض) ، أي: حفظه عن الامتهان، وهو معنى الخبر السابق: ما وقى به المؤمن عرضه، فهو صدقة .

رواه عبد الحميد بن الحسن، عن ابن المنكدر، عن جابر رفعه، قال عبد الحميد: سألت ابن المنكدر عن معناه، فقال: ما يعطيه الشعراء، وقد تقدم نحوه (وقيل لسفيان بن عيينة) - رحمه الله تعالى -: (ما السخاء؟ فقال: السخاء البر بالإخوان) ، أي: مواصلتهم بالإحسان (والجود بالمال) ، أي: إعطاؤه وبذله لهم (قال: وورث أبي) ، وهو عيينة بن ميمون الهلالي (خمسين ألف درهم، فبعث بها صررا إلى إخوانه، وقال: قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي، أفأبخل عليهم بالدنيا؟!) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال الحسن) البصري - رحمه الله تعالى -: (بذل المجهود) ، أي: الطاقة (في [ ص: 181 ] بذل الموجود) من المال (منتهى الجود .

وقيل لبعض الحكماء: من أحب الناس إليك؟ قال: من كثرت أياديه) ، أي: نعمه، ومعروفه وإحسانه (عندي. قيل: فإن لم يكن؟ قال: من كثرت أيادي) ، أي: نعمه (عنده، وقال عبد العزيز بن مروان) بن الحكم الأموي، والد عمر بن عبد العزيز وأخو عبد الملك: (إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروفي عنده) ، أي: قبله مني (فيده عندي مثل يدي عنده) ، أي: سواء .

(وقال المهدي) محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس (شبيب بن أبي شيبة) بن عبد الله التميمي المنقري البصري كنيته أبو معمر، أحد البلغاء، إخباري صدوق، ولفصاحته قيل له: الخطيب، ولم يخطب قط .

روى عن الحسن البصري، وروى له الترمذي، وقد ضعفه يحيى بن معين.

مات في حدود السبعين: (كيف رأيت الناس في داري؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرجل منهم يدخل راجيا، ويخرج راضيا) ، وهذا الجواب مع اختصاره في غاية البلاغة مع ما بين يدخل ويخرج من حسن المقابلة والجناس بين راضيا راجيا، ولزوم ما لا يلزم .

وفي صفوة التاريخ: وكان المهدي يقعد للمظالم، فقال لبعض أصحابه: كيف رأيت الناس؟ فقال: رأيت الخارج راضيا والداخل راجيا (وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب، وهو أحد أجواد قريش، وسيأتي ذكره في حكايات الأسخياء (فقال) :


( إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمل بها لله أو لذوي القرابة أو دع)

وهو معنى قول الأثر السابق، عن علي - رضي الله عنه -: الصنيعة لا تكون إلا لذي حسب ودين، وقد روي ذلك أيضا من قول محمد بن علي بن الحسين كما في الحلية (فقال عبد الله بن جعفر: إن هذين البيتين ليبخلان الناس) ، أي: يعلمانهم بخلا (ولكن أمطر المعروف مطرا) ، أي: عم بمعروفك على الكل (فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا، وإن أصاب اللئام كنت أنت له أهلا) ، وهو معنى الخبر السابق: اصنع المعروف مع من هو أهله، ومن ليس بأهله، فإن أصاب الأهل، فهو له أهل، وإن لم يصب الأهل، فأنت له أهل، ومن هنا قول العامة: اعمل المعروف وارمه في البحر إن لم يعرفه السمك يعرفه رب السمك، فكان عبد الله بن جعفر إنما رد على التمثيل قوله في المصراع الأخير حيث خصص فيه القرابة، ثم قال: أو دع، أي: اترك، وإلا فالاختيار أن الصنيعة تكون في ذوي حسب ودين، وهذا لا ينكر .

والله أعلم .




الخدمات العلمية